إدريس الدريس
إدريس الدريس
كاتب سعودي

50 عاما من “البربرة” والكلام الفاضي

آراء

ها قد مضى خمسون عاماً وأبناء العرب يجتمعون ويتناقشون.. يضربون لملتقياتهم موعداً محدداً من كل عام يكونون فيه ضيوفاً على أحدهم، مرة عند الأخ الأكبر ومرة عند الأصغر، وأخرى يحلون ضيوفاً على أخيهم الأرعن الذي يراهم أقل شأناً.. وفي سنة تالية يجرجرون خطواتهم للاجتماع عند أخيهم صاحب الصرعات، الذي به مس من الهوس وجنون العظمة، وهو الذي عليك أن تتوقع منه ما ليس بالحسبان، وفي العام الذي بعده يلتقون عند أخ لهم هو الأكثر صبراً وحلماً، يترفع عن نزق بعض الأشقاء وإملاءات البعض الآخر وتسول البقية، وهم يسعون قدر الإمكان ألا تتكرر هذه الملتقيات الدورية في مكان واحد أكثر من مرة، وهكذا مرت العقود والسنوات وأبناء العائلة العربية من الإخوة الأشقاء يلتقون في كل عام مرة أو مرتين لسبب طارئ يتجادلون ويتطارحون الهموم ويتعاتبون، لكنهم لا يصدقون مع بعضهم، بل إن منهم من يكيد للآخر. تراهم يتصافحون ويتعانقون، لكنهم يضرسون ويضمرون الشر لبعضهم.

لم تكن نواياهم صافية تجاه بعضهم الآخر. تراهم يتبسمون لبعضهم أمام الكاميرات، والله يعلم ما تخفي صدورهم. كان الكبير فيهم لا يريد لأخيه الأصغر أن يتعلم ويتطور، بل يريده أن يبقى عالة ومتكلاً على غيره.

وكان الأقحاح من هؤلاء الإخوة، الذين يعتمرون الغترة والطاقية، يتسمون بالصبر والروية ويتجاوزون عن تجاوزات إخوانهم الذين خرجوا قبل مئات السنين من رحم صحراء الجزيرة العربية ويمموا شطر الشمال والغرب وقطنوا بمحاذاة الأنهار وعاشوا حالة من الوفر والرخاء وطابت لهم المعيشة، لكنهم بعد طول الشقة وبعد المزار باتوا ينظرون شزراً واحتقاراً لإخوانهم الأصليين أهل الصحراء الذين عانوا شظف وقلة ذات اليد ففتكت فيهم الأمراض والأمية سنين طويلة حتى قيض الله لهم استخراج البترول من باطن الأرض فصاروا من بعد ذلك في مرمى الحاسدين والطامعين. وبفضل حكمتهم وسعة مداركهم فقد سخروا هذه الثروة لتغيير حالهم نحو الأفضل تعليماً وصحة وتنمية، ولم ينسوا مع هذا التحول الإيجابي إخوانهم الذين لم ينعموا بهذه الثروة فصاروا لهم سنداً وعضداً، يهبونهم ويقرضونهم ويفتحون بيوتهم لهم، يقطنونها ويرتعون معهم في الخيرات.

كان أقوى الإخوة يدعي أنه “ناصر” لهم ومعين، لكنه كان على قدر من الرعونة، متكلاً على شعبيته عند عامة الناس الذين تجرهم كلمة وتنأى بهم كلمة.. يأخذهم بمعسول كلامه ذات اليمين وذات الشمال، وكان “مصرا” على حرق المراحل وتجاوز ظروف الأمة “القاهرة”، وكان على قدر من الديكتاتورية التي تجعله يشتم إخوته ممن لا ينقادون لطموحاته من على المنابر وعبر الإذاعات، وقد ادعى أنه والي زمام القومية اليعربية، والذائد عن حياضها وقضاياها، لكن مع ذلك تمكن العدو المتربص في زمنه بهؤلاء الأشقاء من الاستيلاء على المزيد من غرف البيت العربي الكبير، لكن هذا “الناصر” مات بالسكتة بعد أن أصاب إخوته بالنكبة والنكسة، فتولى الذي بعده زمام الأمر ووضع يده بيد إخوانه من قاطني الجزيرة فدعموه وساندوه فصار السادس من أكتوبر 73 هو ” الفيصل”، وهو اليوم “الأنور” في أيام العرب الحديثة، بعد أن استطاع هذا الحلف أن يجعل العرب “سادات” على أرضهم.. لكن الأمر لم يبق على هذا النحو من التصافي وحسن التشاور بعد أن قام أحد الإخوة بمحاولة أن يرث سلطة أخيه الأقوى، وكان هذا الأخ غاوي “صدام” ومحبا للسيطرة، وقد تشاكس مع جاره غير العربي وطال “العراك” بينهما، وكاد بتهوره يخسر منزله الذي يقطنه على ضفاف النهرين لولا أن أخاه الذي يخزن الثروة قد فطن إلى حجم المخاطرة التي جرهم إليها مع الجار العتيد والعنيد، فساندوه بالمال والعتاد حتى استسلم الأعجمي، وخرج هذا الأخ من عراكه منتصراً بفضل فزعة ورفادة إخوانه الذين يقطنون الضفة الأخرى من الساحل، لكن هذا الانتصار جاء برد عكسي، فقد تنمر بعد الانتصار، وقال إنه حارس البوابة الشرقية، ولهذا فقد أخذ يتدلع و”يتبغدد” ويهدد ويتوعد ويعتز ويبتز، وعندما لم يأخذ إخوته تهديداته على محمل الجد، قام بمهاجمة أخيه الأصغر في الغرفة المجاورة واستولى عليها وطرده منها، وقال مفتخراً: لقد “كويته” وسأكوي كل خارج عن إرادتي، لكن الصغير استعان بشقيقه الذي يقطن في غرفة من أكبر غرف البيت العربي، ومعروف أنه متصف بالحلم والرشد والأناة، كما تحالف بعض الإخوة، مستعينين ببعض أصدقائهم، وجمعوا عدتهم لإخراج الأخ المعتدي من أرض الأخ المظلوم، وقد دان لهم هذا الأمر، لكن بعد أن انقسمت العائلة العربية إلى نصفين، وهما جهة “الضد” وجهة الـ “مع”.

لم يكن محب الـ”صدام”، أو من يدعي أنه الـ”ناصر” هما فقط سبب المشاكل الناشبة أظفارها بين هؤلاء الأشقاء، فخلال كل هذه الأعوام كان لهم في الطرف البعيد أخ به مس من الغرور وحب المغايرة والمغامرة بمقدرات أهله، كان طموحه ” يقذف” بشرر كالقصر، ومن سوء حظ أهله أنه صار “معمرا” في خيمته، يهرف بما لا يعرف، ويهذي بما يشبه التعويذات في ورق أخضر، ومع طول العناء والمشقة فإن أهل بيته قد ضاقوا به ذرعاً فحاصروه في قصره ففر منهم، لكنهم طاردوه حتى اقتصوا منه.. وهكذا تجرأ بقية الأهالي ممن عافوا الظلم والضيم فثاروا في الميادين يهتفون “مبارك” لكم أيها الناس هذا الخروج وهذه الثورة، ويضرعون للمولى أن “يرسي” الأوضاع ويحسن الأمور.. وهكذا اشتعلت النار في كثير من غرف المنزل العربي الكبير، فصارت الشعوب “تؤنس” بما يحدث وتدعو للأمة “باليمن” والمسرات.

لكن هناك في غرفة عربية أخرى وهي “شامة” في جبين هؤلاء الأشقاء مازال الناس فيها يسامون العذاب، لكنهم متماسكون في مواجهة هذا الصلف والظلم الذي يطالهم يومياً من قبل الابن النزق الذي كان أبوه “حافظا” للود.

.. هكذا سارت يوميات هؤلاء الأشقاء خلال عقود أمضوها في اجتماعاتهم يبربرون ولا يعملون، يسكبون أحباراً من الكلام اللجوج، وكان بعض الإخوة يسعى لعرقلة إخوته، وبعضهم يحاول الإيقاع، وها هم مجدداً يجتمعون ليبحثوا إمكانية تجاوز المنغصات والكيديات والأحقاد السابقة بعدما أدركوا أن قاطني البيوت قد ملوا وكلوا وحاروا ثم ثاروا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.

ها هي الاجتماعات تنصرف إلى الهاجس التنموي بحثاً عن التطوير والتنمية وتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والصحية والتعليمية والثقافية والفنية والرياضية. وما زال الأهالي في غمرة ما يحدث من تحولات لا يدرون كيف يصنفون أو يسمون هذا التبدل، فهناك من يراه “ربيعاً” يُنتظر ازدهاره خلال السنوات القريبة القادمة، وهناك الحيران الذي يلزم الحياد، وهناك المحافظ الذي يرى أن ما حدث ليس إلا شغبا وإفسادا.. وإلى أن يمضي بعض الوقت لكي تظهر ملامح هذا الجنين فإننا لن نستعجل التسمية قبل تمام الولادة.

المصدر: الوطن أون لاين