رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

الثورة السورية: المتطوعون والأصوليون والمخاوف الغربية

آراء

أخبرني صحافي لبناني مشهور كان يتردد على دمشق كثيرا أنه مضى إلى العاصمة السورية في خريف عام 2004 على موعد مع أحد القادة الأمنيين هناك. وفي دمشق علم من إدارة الفندق الذي نزل فيه أن صديقه فلانا يتقبل التعازي باستشهاد ابنيه اللذين تطوعا للقتال ضد الأميركيين بالعراق، فذهب وعزاه. وعندما قابل القائد الأمني في اليوم التالي، سأله على توجس وتردد: لماذا ترسلون – وأنتم قوميون بعثيون – شبانا من «السنة» للقتال بالعراق، ولا ترسلون أبدا شبانا من العلويين أو المسيحيين مثلا، ولو في حالات قليلة؟ ويقول الصحافي اللبناني إن اللواء (الذي صار سفيرا للنظام لدى إحدى الدول العربية) ما انزعج ولا تلعثم، بل أجابه: السنة هؤلاء هم الأكثر حماسا، نحن لا ندعوهم بل هم يتطوعون، ولماذا تنزعج أنت؟ عسى أن تقل أعدادهم فهم كثيرون كثرة لا تطاق!

ولا أقصد من وراء هذه الواقعة التقليل من شأن الروايات عن كثرة أعداد «الجهاديين» السنة في صفوف الثوار السوريين اليوم. بل ما أقصده أمران: أن شبانا عربا صغارا كانوا يحسون ضرورة الدفاع عن الأمة في وجه مهاجميها بهذه الطريقة؛ أما الانتظام في مجموعات أو أحزاب «جهادية» فقد كان يحدث فيما بعد، أي بعد وصولهم للساحة التي يقصدونها، أو لكي يتمكنوا من الوصول إلى تلك الساحة. ونحن نعلم أن كثرة ساحقة من هؤلاء سقطت في الطريق أو بعد الوصول إلى الساحات بقليل. أما القلة الباقية فقد انتهى بها الأمر إلى «الأسْر» والهلاك، أو إعادة الاستخدام من جانب الأنظمة التي سبق أن أرسلتهم أو سهلت إرسالهم. وهذا هو الأمر الثاني الذي أردت استنتاجه من وراء الواقعة التي ذكرها لي الصحافي اللبناني.

فسواء أكان الشاب المرسل إلى أفغانستان أو ألبانيا أو العراق، سوريا أو خليجيا أو تونسيا أو مصريا؛ فإن أجهزة نظام الأسد الابن كانت تعيد تجميعهم وهم عائدون في معسكرات، فتساوم عليهم الدول التي انطلقوا منها بحجة التعاون الأمني أو التقرب للولايات المتحدة. وإن لم تجد اهتماما أو لم تتمكن من بيعهم لأنهم سوريون أو فلسطينيون؛ فإنها تعيد استخدامهم إذا سنحت الفرصة مثلما فعلت في قصة «فتح الإسلام» عندما أرسلت عام 2007 مئات إلى مخيم نهر البارد بجوار طرابلس ليقيموا إمارة إسلامية هناك. وقد قاتلهم الجيش اللبناني وقتها، وعندما سقط المخيم فرت مئات منهم إلى عين الحلوة بجنوب لبنان، وجرى أسر عشرات منهم ما يزالون في السجون اللبنانية، وعاد البارزون منهم إلى سوريا الأسد.

إن الذي لا يصح إنكاره إذن أنه كانت هناك «حالة جهادية» بين فتيان وشبان العرب في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وأنها بلغت إحدى ذراها في أفغانستان، وفي العراق، ليس بسبب كثرة الأعداد، بل بسبب بروز قدرات تأطيرية وتنظيمية. ومعظم هذه الحالة «ورثها» الإيرانيون والباكستانيون والسوريون، وأعادوا توجيهها بقدر ما استطاعوا لصالحهم بشكلين أو صيغتين: مساومة الدول الغربية والولايات المتحدة على تسليمهم أو إعادة استخدامهم بطرائق ووسائل مختلفة. وكان الإيرانيون والسوريون، وما يزالون، أقدر من غيرهم في الماضي، أما اليوم؛ فإن السوريين – شأنهم في ذلك شأن الباكستانيين – فإن تلك «المتفجرات» التي أعدوها ورعوها تنفجر في أيديهم. الباكستانيون ظهرت لديهم طالبان باكستان، والنظام السوري انفجر في يده «الجهاديون» الذين أرسل بعضهم من قبل ليس فقط إلى العراق، بل أيضا إلى الأردن ولبنان وغزة، وأحيانا إلى السعودية!

ولنعد إلى الأوضاع الحالية في سوريا. هناك عدة فئات من المقاتلين ضد نظام الأسد في البلاد اليوم. الفئة الأولى والأبرز: كتائب ومجموعات الجيش السوري الحر. وهم يشكلون نسبة 70 % من مجموع الثوار. وهؤلاء انشقوا عن القوات النظامية مجموعات وأفرادا، وأعادوا تنظيم أنفسهم في كتائب مع الضباط الذين انشقوا معهم، أو مع ضباط من قريتهم أو بلدتهم.

والفئة الثانية وهم يبلغون نحو 20 % من أبناء القرى والبلدات والمدن السورية. ومعظم هؤلاء انتظموا في مجموعات صغيرة في العام الثاني للثورة تحت وطأة الخراب الذي استولى على قراهم وبلداتهم، وإقبال أجهزة النظام على قتلهم وسجنهم وملاحقتهم، أو تحمسا لإسقاط النظام. وقد سموا مجموعاتهم بأسماء إسلامية وأسماء للصحابة (شأن الحمصيين لأن ضريح خالد بن الوليد موجود عندهم)، وذلك بحسب الثقافة العربية والإسلامية السائدة. وقد قابلت كثيرين منهم في لبنان، يرسلون نساءهم وأولادهم إلى لبنان، ويعودون للقتال في القرى والبلدات، وقد يكتفون بحمايتها بدوافع الشرف والكرامة والانتماء – وهم سيئو التسليح والتدريب بشكل عام. ومن هؤلاء حماصنة ودرعيون ومن جسر الشغور تربوا خارج سوريا، وعاد جيلهم الثاني أو الثالث للدوافع المذكورة. وأعرف صديقا سوريا يعيش خارج البلاد منذ ثلاثين عاما، ولا يكاد أولاده يعرفون شيئا عن بلدهم غير أنهم من الرستن أو حمص أو أعزاز. وقد جاء ولداه (صيدلي ومهندس) إلى سوريا للقتال، واستطاع إعادتهما مرتين، لكنهما الآن في سوريا من جديد!

وهناك الفئة الثالثة، وهم الذين «جاهدوا» من قبل، ومعظمهم بالفعل من السوريين، وأكثرهم عائد من العراق أو من لبنان (ومن اللبنانيين وفلسطينيي المخيمات). وهؤلاء يدفعهم للقتال أمران: أنهم مثل سائر السوريين يريدون إسقاط النظام هناك، وأنهم يملكون حقدا خاصا على النظام لأنه استغلهم واستعملهم وأساء إليهم في سوريا ولبنان عندما اضطروا للعودة من ميادين القتال. وقد ترددوا طويلا قبل التنادي للتجمع ومقاتلة النظام، لأنهم ما كانوا يصدقون أنه يمكن إسقاط النظام، وهؤلاء أحسن تدريبا وتنظيما، واشتهروا بسرعة لأنهم يعتمدون الهجوم رغم أن تسليحهم ليس أفضل من تسليح المتطوعين الآخرين. واشتهروا بسرعة أيضا لأن بعضهم يحسن استخدام وسائل الاتصال من تجاربهم بالعراق ولبنان.

ووسائل الاتصال هذه كما كشفتهم لدى أجهزة الاستخبارات السورية والأميركية، جذبت إليهم فتيانا عربا من الخليج ومصر والأردن، فتحسنت إمكانياتهم المادية، وما عرف عنهم حتى الآن التجاوزات التي عرفت عن غيرهم، ولا مارسوا أعمالا ثأرية، لكنهم غير ذوي شفقة أو رحمة تجاه جنود النظام وأجهزته. وكل هذه الأمور تعرفها الاستخبارات الغربية، لكنها حتى الآن – وبخاصة الأميركية منها – تتعاون بلهفة مع الأجهزة السورية واللبنانية على قتلهم. وقد حدثت عدة حوادث في لبنان من هذا القبيل سقط فيها قتلى سوريون ولبنانيون وفلسطينيون على الحدود مع لبنان أو بداخل لبنان، وبنيران القوات السورية أو الأجهزة اللبنانية، إنما تلك مسألة أخرى، ولا داعي للإطالة فيها.

وقد ذكرت ذلك، لأشير إلى أمرين: أن النظام السوري ما يزال يملك قدرة مشهودة على الترهيب بالإرهابيين، وأنه ما يزال يجد من يصدقه في أجهزة الاستخبارات الغربية، وبين السياسيين الغربيين. أما المائة ألف قتيل، وملايين المهجرين والمعتقلين، فهذه الأمور كلها لا تجعل من النظام السوري نظاما إرهابيا، لا في عيون الأميركيين، ولا في عيون وزير الخارجية الألماني.

ولنعد إلى الخلاصة.. هناك في سوريا شبان منتظمون في «جبهة النصرة» يسمون أو يعتبرون أنفسهم جهاديين، وهذه هي طريقتهم في التعبير عن الإصرار على إسقاط نظام الأسد. وإذا كان الأميركيون مرتاحين من عودة الجهاديين والإرهابيين (الذين قاتلوهم بأفغانستان والعراق)، فأسلم الطرق للخلاص منهم لا تكون بالاستمرار في دعم النظام السوري أو التعاون مع أجهزته في سوريا ولبنان؛ بل في تقصير عمره من طريق إعانة الثوار الذين يعتبرونهم معتدلين. فهذا النظام صار خطرا على الأمن بالمنطقة في سوريا ولبنان والأردن والعراق، وربما في بلدان أخرى. وتقديرنا نحن العرب أنه أخطر على أمننا وحياة ناسنا ووحدة بلداننا من النووي الإيراني وأخطاره على إسرائيل والولايات المتحدة.

وإذا لم يكن من الموت بد

فمن العجز أن تموت جبانا

 المصدر: صحيفة الشرق الأوسط