محمد حسن المرزوقي
محمد حسن المرزوقي
كاتب اماراتي

ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬الموت‭ ‬بقلوبنا؟

آراء

«‬لا‭ ‬شيء‭ ‬مخلّد‭ ‬أبداً،‭ ‬لا‭ ‬مخلّد‭ ‬الإنسان،‭ ‬ولا‭ ‬مخلّد‭ ‬المال‭. ‬المخلّد‭ ‬هو‭ ‬الوطن‭ ‬والعمل،‭ ‬وكلّ‭ ‬فردٍ‭ ‬منّا‭ ‬سوف‭ ‬يُذكر‭ ‬بعمله»‬‭. ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬بن‭ ‬سلطان‭ ‬آل‭ ‬نهيّان،‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭.‬

‭***‬

19‭ ‬رمضان‭: ‬استيقظت‭ ‬ذات‭ ‬غربةٍ،‭ ‬لأجد‭ ‬رسالة،‭ ‬من‭ ‬صديق،‭ ‬باتت‭ ‬ليلتها‭ ‬تنتظر‭ ‬في‭ ‬هاتفي‭ ‬المتحرّك،‭ ‬كتب‭ ‬فيها‭: ‬‮«‬عظّم‭ ‬الله‭ ‬أجركم‭ ‬في‭ ‬فقيدكم‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‮»‬.‬

رسالة‭ ‬هاتفية‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬عدد‭ ‬كلماتها‭ ‬ستّ‭ ‬كلمات،‭ ‬لكن‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬مفعول‭ ‬ستّ‭ ‬قنابل‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬ألقاها‭ ‬الأميركان‭ ‬على‭ ‬هيروشيما‭ ‬وناجازاكي،‭ ‬فكل‭ ‬كلمةٍ‭ ‬فيها‭ ‬فجرت‭ ‬في‭ ‬داخلي‭ ‬شيئًا‭ ‬ما،‭ ‬وشعرت‭ ‬بعد‭ ‬قراءتها‭ ‬بأنّني‭ ‬بحاجة‭ ‬لتحسس‭ ‬داخلي‭ ‬لأفتّش‭ ‬عن‭ ‬الأثر‭ ‬الذي‭ ‬تركته،‭

‬فاكتشفتّ‭ ‬أنّ‭ ‬قلبي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬في‭ ‬موضعه‭!‬

يا‭ ‬ترى‭.. ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬الموت‭ ‬بقلوبنا؟

‭***‬
يصف‭ ‬أحد‭ ‬الصحابة‭ ‬اللحظة‭ ‬المظلمة‭ ‬التي‭ ‬حُرم‭ ‬فيها‭ ‬المسلمون‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬حبيبهم،‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬والحديث‭ ‬معه،‭ ‬والاستماع‭ ‬إليه،‭ ‬عندما‭ ‬صعدت‭ ‬روحه‭ ‬إلى‭ ‬باريها،‭ ‬وقارن‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬اللحظة‭ ‬المبهجة‭ ‬عندما‭ ‬دخل‭ ‬المدينة‭ ‬فقال:‭ ‬‮«‬لمّا‭ ‬كان‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬دخل‭ ‬فيه‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬المدينة‭ ‬أضاء‭ ‬فيها‭ ‬كلّ‭ ‬شيء،‭ ‬فلمّا‭ ‬كان‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬مات‭ ‬فيه‭ ‬أظلم‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وما‭ ‬نفضنا‭ ‬أيدينا‭ ‬من‭ ‬التّراب‭ ‬وإنّا‭ ‬لفي‭ ‬دفنه‭ ‬حتى‭ ‬أنكرنا‭ ‬قلوبنا‮»‬،

ولم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬مبالغة،‭ ‬فمن‭ ‬جرّب‭ ‬فقد‭ ‬حبيب‭ ‬أو‭ ‬قريب‭ ‬يعلم‭ ‬جيدًا‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬الموت‭ ‬بقلوبنا؟‭ ‬

من‭ ‬يخبر‭ ‬الموت‭ ‬أنه‭ ‬ضيفٌ‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬في‭ ‬مروره‭ ‬بجانب‭ ‬قلوبنا‭ ‬التي‭ ‬نخبئ‭ ‬فيها‭ ‬أحبابنا؟‭ ‬ومن‭ ‬يخبر‭ ‬هذا‭ ‬الموت‭ ‬أنّه‭ ‬عندما‭ ‬يقتحم‭ ‬قلوبنا‭ ‬كلصٍ‭ ‬يتسلل‭ ‬من‭ ‬النافذة،‭ ‬ويسرق‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬نحب‭ ‬ثم‭ ‬يفرّ‭ ‬هاربًا،‭ ‬يتركنا‭ ‬وقلوبنا،‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬فوضى‭ ‬عارمة؟‭ ‬فمنذ‭ ‬رحيل‭ ‬زايد،‭ ‬وأنا‭ ‬أعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬أثات‭ ‬قلبي‭ ‬الذي‭ ‬بعثره‭ ‬الموت‭. ‬أجمع‭ ‬ابتساماته،‭ ‬صدقه،‭ ‬وطيبة‭ ‬قلبه‭ ‬وأحفظها‭ ‬في‭ ‬ركنٍ‭ ‬قصيّ‭ ‬من‭ ‬القلب‭! ‬

‭***‬

في‭ ‬كل‭ ‬رمضان،‭ ‬يتجدّد‭ ‬موعدنا‭ ‬مع‭ ‬الفاجعة،‭ ‬وينبت‭ ‬السّؤال‭ ‬من‭ ‬جديد‭: ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬الموت‭ ‬بقلوبنا؟
رغم‭ ‬إني‭ ‬أحبّك‭ ‬يا‭ ‬رمضان،‭ ‬إلا‭ ‬أنّني‭ ‬أخافك‭ ‬أيضًا،‭ ‬لأنّك‭ ‬تعود‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬ولا‭ ‬يعود‭ ‬معك‭ ‬زايد،‭ ‬فنستقبله‭ ‬بالأعلام‭ ‬والورود،‭ ‬كما‭ ‬كنّا‭ ‬نفعل‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬داره‭ ‬ونحن‭ ‬أطفال‭. ‬في‭ ‬المقابل،‭ ‬أحبك‭ ‬لأنك‭ ‬اخترت‭ ‬لرحيله‭ ‬أحبّ‭ ‬الشهور‭ ‬إلى‭ ‬الله،‭ ‬هو‭ ‬الآن‭ ‬عنده،‭ ‬قريب‭ ‬منه،‭ ‬أشدّ‭ ‬ممّا‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هنا‭ ‬بيننا‭. ‬

وأحبّك‭ ‬كذلك‭ ‬لأنّك‭ ‬أصبحت‭ ‬تذكرني‭ ‬بصورته‭ ‬وهو‭ ‬يلوّح‭ ‬لنا‭ ‬مبتسمًا،‭ ‬بصوته‭ ‬وهويعبر‭ ‬من‭ ‬قلبه‭ ‬إلى‭ ‬قلوبنا،‭ ‬وبكل‭ ‬ما‭ ‬يتعلّق‭ ‬به،‭ ‬لكن،‭ ‬أخبرني‭ ‬يا‭ ‬رمضان‭: ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬الموت‭ ‬بقلوبنا؟

‭***‬

أن‭ ‬يرحل‭ ‬زايد،‭ ‬عبارة‭ ‬نرفض‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬أحببناه‭ ‬أن‭ ‬نفهمها‭. ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬رحل‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬لايزال‭ ‬اسمه‭ ‬ينتقل‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬على‭ ‬شفاهنا‭ ‬وأقلامنا،‭ ‬وفي‭ ‬أحاديثنا‭ ‬ومقالاتنا‭. ‬هذا‭ ‬العظيم،‭ ‬عرف‭ ‬كيف‭ ‬يهيئِّ‭ ‬بأعماله‭ ‬العظيمة،‭ ‬وهو‭ ‬حيّ،‭ ‬خلوده‭ ‬بعد‭ ‬رحيله،‭ ‬بل‭ ‬كأنّه‭ ‬كان‭ ‬دائماً‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬تهيئة‭ ‬رحيله،‭ ‬وحياته‭ ‬بعد‭ ‬رحيله،‭ ‬وقد‭ ‬نجح،‭ ‬فها‭ ‬هو‭ ‬يخرج‭ ‬كل‭ ‬رمضان‭ ‬من‭ ‬مرقده‭ ‬الطّاهر،‭ ‬ليطمئنّ‭ ‬على‭ ‬الإمارات‭ ‬وعلى‭ ‬أبنائها؟

نحن‭ ‬بخير‭ ‬يا‭ ‬والدنا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬قلوبنا‭ ‬بعد‭ ‬رحيلك‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬كذلك‭!‬

المصدر: الإمارات اليوم