حازم صاغية
حازم صاغية
كاتب وصحفي لبناني

أوجه التقاطع الروسية – الإيرانية

آراء

وراء الموقف السياسيّ الراهن الذي يجمع بين روسيا البوتينية وإيران الخمينية من سوريا وثورتها، بل من جملة بلدان وأمور أخرى، يكمن شبَه نادراً ما يشير إليه المراقبون والمعلقون.

والشبه هذا إنّما يتعلّق بمسألة النماذج السياسية بوصفها امتداداً للموقف من بلدان الغرب الديمقراطي وتعبيراً عنه.

فما المقصود تحديداً بمسألة النماذج السياسية هذه؟

إذا ما راجعنا تاريخ القرن العشرين، أو محطّاته الأبرز ذات المضمون الأيديولوجي، وجدنا أن النموذج الغربي السائد في الولايات المتحدة الأميركية وبلدان أوروبا الغربية، والمعروف بالديمقراطي الليبرالي، إنما تعرض لتحديات ثلاثة كبرى قدم كل واحد منها نفسه بوصفه الحامل لنموذج سياسي بديل:

لقد كان التحدي الأول هو ذاك الشيوعي الذي تمكن من الوصول إلى السلطة بعد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا القيصرية. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية امتد هذا النموذج إلى الصين التي انتصرت ثورتها في 1949، بعدما كان الجيش الروسي الأحمر قد حمل النموذج إياه إلى سائر بلدان أوروبا الشرقية والوسطى.

والتحدي الكبير الثاني كان ذاك الفاشي الذي حقق انتصاره الأول في النصف الأول من العشرينيات باستيلاء بنيتو موسوليني على إيطاليا، من خلال مسيرة الزحف على روما الشهيرة، ثمّ توّج هذا التحدي نفسه في الانتصار الانتخابي الذي أحرزه أدولف هتلر وحزبه القومي الاجتماعي في ألمانيا عام 1933.

وكان التحدي الثالث في إيران بانتصار الثورة الإسلامية الخمينية في 1979. ذاك أن الثورة المذكورة أكدت على نحو جازم امتلاكها لتصور آخر «لا غربي ولا شرقي» في السياسة، مثلما سعت إلى تصدير نفسها و«خصوصيتها» إلى خارج حدودها الوطنية، مثلها في ذلك مثل الثورتين الشيوعية والفاشية.

والأهم في هذه التحديات الثلاثة، وهو من أبرز القواسم المشتركة بينها، عداؤها كلّها للديمقراطية وقيامها على افتراض الصواب الأيديولوجي الذي لا يُمتحن على إرادة الأكثرية الشعبية ومواقفها. فأولوية الدولة القومية عند الفاشيين الإيطاليين، أو العِرق عند الفاشيين الألمان (النازيين)، أو الطبقة العاملة عند الشيوعيين الروس، أو ولاية الفقيه عند أصحاب «الخصوصية» الخمينية… هي كلها تقف فوق السياسة بآرائها ومؤسساتها المتقلبة والنسبية المطعون فيها.

وعلى رغم اختلافات كثيرة بين التحديات الثلاثة، فضلاً عن اختلاف بعيد في الظروف الزمنية التي نشأ فيها كلٌ من تلك التحديات، يبقى أن سوية التقدم في بلدان قليلة أوروبية (روسيا وإيطاليا وألمانيا آنذاك) أو غير أوروبية (إيران)، هي التي تفسر احتضان البلدان المذكورة لتلك التحفظات الجوهرية على النموذج الديمقراطي.

والراهن أن التسميات الإيديولوجية للأحداث السياسية والعسكرية الكبرى لم تغفل عن هذه المسألة، بل رفعتها عالياً. فكثيراً ما وُصفت الحرب العالمية الثانية بأنها مجابهة ضارية بين الفاشية والديمقراطية، تماماً كما وُصفت الحرب الباردة بأنها صدام رأسي بين الشيوعية والديمقراطية. أما الخمينية فكانت بدورها بالغة الصراحة في إعلانها الحرب الإيديولوجية الضارية على ما أسمته «الديمقراطية على الطريقة الغربية» (وكأن هناك ديمقراطية على طريقة أخرى!).

على أن التحدي الفاشي للديمقراطية ونموذجها زال وانتهى نهاية كارثية مع الهزيمة المدوية التي حلت بألمانيا وإيطاليا بنتيجة الحرب العالمية الثانية. أما التحدي الشيوعي فانهارت شيوعيته في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، في ظل ميخائيل غورباتشوف، إلا أنه أعاد صوغ نفسه في الحلة الدولتية- القومية الروسية كما يرعاها الرئيس بوتين. وبدوره لا يزال التحدي الإيراني كما يجسده نظام ولاية الفقيه قائماً.

ومع هذا يبقى أن الروس والإيرانيين يعرفون تماماً، لا سيما بعد سقوط التوتاليتاريتين الفاشية والشيوعية، أن نموذجيهم لا يعيشان بذاتهما من دون «فتحة» ديمقراطية مهما كانت شكلية. هكذا نجد أن البلدين يجريان انتخابات متواصلة وعلى مستويات التمثيل جميعاً، وقد كان آخرها انتخاب روحاني رئيساً لجمهورية إيران. إلا أن النزعة الانتخابية هذه تبقى محكومة بسقف منخفض، أيديولوجي في الحالة الإيرانية (ولاية الفقيه) ورئاسية في الحالة الروسية (ما يشبه المعصومية في ما خص بوتين). فحين تشي الانتخابات بنتائج تتناقض مع الإلزام الأيديولوجيّ الحاكم، على ما حصل في 2009 في إيران، يتعطل المسار الانتخابي وتُقمع الحركة الشعبية التي تطالب باحترامه، وحين تنتهي ولايتا بوتين يؤتى برئيس الحكومة ميدفيديف لكي يسخّن له الكرسي في انتظار عودته!

لا شكّ أن هذا الاشتراك الروسي- الإيراني في النموذج المناهض للديمقراطية لا يلخص أوجه التوافق الأخرى، خصوصاً منها الاستراتيجي والجغرافي السياسي مما يسهل الوقوع على شواهد كثيرة له في آسيا وفي خرائط النفط وأنابيبه. إلا أنه، مع هذا، يوفر الخلفية الصالحة لتسهيل تقارب البلدين ضداً على البلدان والأنظمة التي تعتمد الديمقراطية الليبرالية طريقةً لإدارة شؤونها.

ولم يكن قليل الأهمية أن العرب، خصوصاً ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، قد انجرّوا إلى صراع النماذج كما كان يومذاك. وكان أسوأ ما في تلك الحقبة ما أدى إليه واقع الاستعمار الغربي، وتحديداً البريطاني- الفرنسي، في المنطقة، بحيث اتجهت النخب العربية ومعها المزاج الشعبي إلى التعاطف مع النموذجين الفاشي والشيوعي اللذين لم يمتلك بلداهما مستعمرات في البلدان العربية. ولم يكن للصراع ضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومن ورائها الحركة الصهيونية، سوى تعزيز الوجهة هذه وتقويتها.

وبالفعل فإن الأثر الذي تركته الوجهة هذه، لاسيما على صعيد الحساسية والثقافة الديمقراطيتين، كان كارثياًً، خصوصاًً بما أدى إليه من تمتين القطيعة بين المنطقة العربية والغرب الديمقراطي.

لكن العرب اليوم، لاسيما في سوريا، يرون بأم العين كيف أن أصحاب النماذج المناهضة للديمقراطية هم أنفسهم الذين يناهضون انعتاقهم من ربقة الاستبداد. فكأن الصراع من أجل مستقبل أكثر حرية وكرامة إنسانية للشعوب العربية يمر بالضرورة في محطة الصدام مع ذاك النموذج المناهض للديمقراطية على نطاق عالمي.

المصدر: صحيفة الاتحاد