لا تطلقوا النار على سيارة الإسعاف: الرعاية الطبية في مرمى النيران
بقلم: جاسون كون وفرانسواز دوروك

ورلد بوليسي جورنال

(الصورة من موقع وورلد بوليسي جورنال نقلاً عن باسكال زينتزان/منظمة أطباء بلا حدود)

تصريح خاص وحصري للترجمة والنشر في “الهتلان بوست”

لانكين، جنوب السودان – في المساء، بدأ الجرحى يتوافدون حيث أحضرت شاحنة صدئة أربعة شبان إلى مستشفى سعته 100 سرير تابع لمنظمة أطباء بلا حدود. كان الشبان مصابين بأعيرة نارية؛ اثنان منهم بإصابات خطيرة في البطن كانت تهدد حياتهم، والاثنان الآخران بإصابات في أرجلهم. قبل ساعات فقط ومع بداية غروب شمس ذلك اليوم الذي وصلت فيه درجة الحرارة 106 درجة فهرنهايت (41 درجة مئوية)، كان فريق المستشفى يلعب الكرة الطائرة مع السكان المحليين.

ولكن الأمور تتغير بسرعة في المناطق الشمالية من ولاية جونقلي في دولة جنوب السودان. فعلى مدى عقد من الزمان، كانت هذه الولاية مسرحاً لاقتتال المجتمعات المحلية بين القبائل الثلاث الرئيسية فيها وهي: الدينكا والمورلي والنوير. كما تشكل جونقلي موطن أول تمرد مسلح محلي منذ ولادة دولة جنوب السودان منذ عامين بعد حرب أهلية مدمرة.

محاولة فرز وتصنيف المجتمعات المحلية العديدة عملية معقدة، فالشباب الذين وصلوا في تلك الليلة أصيبوا خلال معركة بين عشيرتين من قبيلة النوير نفسها. بينما كان الفريق الطبي يعالج المصابين من الطرفين ويعمل على ضمان استقرار حالتهم، كان من الضروري تصنيفهم بشكل سريع وفقاً لانتماءاتهم العشائرية، ووضعهم في أجنحة منفصلة. على الفور، قام قائد الفريق الطبي، عبدالوصي – وهو ممرض أفغاني ولاجئ سابق – بتغيير قواعد ساعات الزيارة وأعداد مقدمي الرعاية المسموح لهم بالدخول إلى قسم المرضى الداخليين، وهو عبارة عن هيكل من أربعة جدران خرسانية وباب خشبي وسقف من الصلب المموج. كما قصر الدخول إلى أجنحة العناية بالجرحى على عاملة صحة لكل مريض. ومع كل تلك التغييرات، شعر الموظفون السودانيون الجنوبيون أنه من الضروري تفتيش جميع الرجال والنساء الذي يذهبون إلى منطقة رعاية المرضى الداخليين بحثاً عن أي نوع من الأسلحة، فهناك حالات لنساء قمن بتهريب السلاح إلى الداخل واستخدامه لتصفية الحسابات.

لا يوفر المستشفى في لانكين خدمات جراحية. لذا، كان يتعين إجلاء الجرحى الأربعة إلى مستشفى آخر في بلدة “الناصر” في ولاية أعالي النيل، حيث يمكن إجراء علميات جراحية لهم هناك. كما أن إجلاء المرضى قد يساعد في نزع فتيل أي توتر يكون قد تراكم في المجتمع جراء هذه الموجة الأخيرة من القتال. غير أن الطائرة ذات المحرك الواحد من طراز سيسنا التي ستستخدم لنقل المصابين لن تصل قبل 12 ساعة، حيث لا تهبط الطائرات في الليل – ومن هنا كانت تلك الاحتياطات التي اتخذها عبدالوصي.

توضح هذه الحادثة أمراً ذا أهمية كبيرة للمنظمات الطبية العاملة حول العالم. في جنوب السودان، كما في العديد من النزاعات الأكثر عنفاً اليوم، فالقتال نادراً ما يتوقف عند أبواب المستشفيات، حيت غالباً ما تكون المرافق الطبية وسيارات الإسعاف امتداداً لساحة المعركة، ويتم استهدافها بالصورة نفسها التي يتم بها استهداف المرافق العسكرية. كثيراً ما يتم تهديد أو قتل العاملين في مجال الرعاية الصحية، ليس هنا فقط، وإنما في ساحات الحرب في العديد من الأماكن، سواء في أفغانستان أو جمهورية الكونغو الديمقراطية أو سوريا أو باكستان. قد تختلف الأسباب – وفي كثير من الأحيان تكون الدوافع مبهمة إلى حد ما – من نزاعات تقليدية إلى خلافات بين القبائل أو المجموعات العرقية، إلى معارك على الموارد. تشكل تلك الانتهاكات الجسيمة لعمليات الرعاية الطبية تحديات خطيرة لجميع المنظمات التي تسعى إلى التعامل معها، سواء على المستوى المحلي أو الدولي.

أمن الرعاية الطبية
في العديد من مناطق النزاع، تعد الهجمات على المرافق الطبية جزءاً لا يتجزأ من الاعتداءات على المدنيين بشكل عام، وفي مناطق أخرى، يتم استخدام العنف الموجه ضد المرافق الطبية لتحقيق مكاسب عسكرية. بغض النظر عن الدوافع، ففي العادة، لا يحترم المقاتلون الواجب الأخلاقي للعاملين في المجال الصحي الذي يتمثل في تقديم الرعاية إلى المرضى بعض النظر عن المصالح السياسية أو الدينية أو العرقية أو غيرها.

في عصر يتسم بحروب غير متناظرة، ونزاعات داخلية تزداد تعقيداً تضم جماعات مسلحة مفتتة تواصل تمسكها الهش بالعنف، وتتسم بتسلسل قيادي غالباً ما يكون ضعيفاً، فإن التفاوض ضمن هذه البيئة بشأن أبسط أمور قبول وحماية الطواقم الطبية والمرضى والمرافق، يعد تحدياً صعباً إلى حد كبير. فالعديد من الجماعات المسلحة والجيوش الوطنية تتجاهل القانون الدولي الإنساني ما يجعل الأمر أكثر صعوبة لتوفير حيز آمن يتم فيه تقديم الرعاية الطبية.

في نزاعات أخرى، يصبح المستشفى نفسه جزءاً من ساحة المعركة، أو بالأحرى ساحة ثانوية أكثر من كونه المسرح الرئيسي للمعركة. وتواجه المنظمات الطبية في كثير من الأحيان، جهلاً كاملاً بالقانون الإنساني من قبل المجموعات التي تشكل التهديدات الأكثر خطورة. لذا، من الضروري أن تلعب المنظمات الطبية دوراً في تعريف الجماعات المسلحة بهذه المبادئ وتوضيح أهمية قبول مبدأ توفير رعاية صحية غير متحيزة لجميع الأطراف. في الغالب لا يتم فهم حجم المشكلة – أو حتى طبيعة التهديد – بشكل صحيح، نظراً لطبيعة التقارير الضعيفة المتوفرة عن الحوادث على المستويين الوطني والدولي. إلا أنه يجب على المنظمات العاملة في هذه المناطق أن تعرف موازين القوى فيها وتستفيد من النفوذ الذي تشكله الأعراف الاجتماعية والثقافية والدينية، والتي قد تتباين بصورة كبيرة من مدينة لأخرى، ناهيك عن اختلافها من بلد لآخر، فلا يمكن لمقدمي خدمات الرعاية الصحية أن يكونوا في وضع يسمح لهم بالتنقل وتخفيف الأخطار التي قد يتعرض لها موظفوهم أو مرافقهم أو مرضاهم من دون بناء قاعدة لمثل تلك المعارف.

في الوقت نفسه، تقع مسؤولية احترام سلامة المرافق والمركبات الطبية والعاملين الصحيين والمرضى على عاتق الجماعات المسلحة – التابعة للدولة وغير التابعة لها على حد سواء. إلا أن العديد من النزاعات الأكثر عنفاً اليوم أثبتت أن هذه المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني يتم تجاهلها بانتظام، ما يتسبب في حرمان نسبة كبيرة من السكان من الحصول على الرعاية الصحية. ولا تأتي التهديدات والهجمات من الجماعات المسلحة مثل طالبان أو القاعدة أو المتمردين الكونغوليين فحسب، ولكنها تأتي أيضاً من قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقوات الأمم المتحدة والقوات الأمريكية. ولكن عبر التفاوض مع جميع الأطراف المتحاربة، يمكن لمقدمي الرعاية الصحية أن ينجحوا في إبقاء الأسلحة والعنف بعيدين عن مستشفياتهم. عندئذ فقط سيشعر من هم بحاجة إلى المساعدة الطبية بدرجة من الأمان تسمح لهم بالذهاب إلى المرافق الصحية بعد أن تتحول إلى مناطق محايدة خالية من النزاع أو الهجمات من أي طرف من الأطراف.

في حين أن التفاوض مع جميع الأطراف وإظهار الحياد الطبي عبر تقديم العلاج إلى أي شخص يذهب إلى قسم الطوارئ أمر مهم للغاية، إلا أن ذلك لم يعد كافياً في العديد من مناطق النزاع اليوم. فمن سوريا إلى جنوب السودان، يتم استهداف المرافق الطبية والعاملين فيها لما قد يبدو أنها تمثل مساعدة “للعدو”. وفي مواجهة سيناريوهات الحرب، لا يمكن للمسعفين في الخطوط الأمامية فعل الكثير لوقف العنف، بعض النظر عن التزامهم بمبادئ أخلاقيات مهنة الطب. يقع العبء حقاً على هؤلاء المسؤولين عن هذه الانتهاكات، حيث تشارك جميع الأطراف في الانتهاكات في مجموعة واسعة من النزاعات.

المستشفيات: مناطق خالية من القتال
مع إشراقة صباح اليوم التالي في لانكين، انتشر الخبر بسرعة بين العاملين في المستشفى أن الشاب – أو بالأحرى الصبى حيث لم يكن يتجاوز الرابعة عشرة من عمره – الذي كان مصاباً بجروح خطيرة قد توفي عند منتصف الليل. كما توفي الشاب الثاني بعده بساعات قليلة بسبب نزيف داخلي. الشابان كانا ينتميان إلى طرفين مختلفين من أطراف القتال. شعر الموظفون المحليون بالقلق، فرغم تساوي الضحايا بين الجانبين، إلا أن ذلك لم يقلل احتمالات حدوث هجوم انتقامي على المستشفى.

بصفته قائد الفريق الطبي، عَبَر عبدالوصي الطريق الترابي من المستشفى إلى مكتب مأمور الشرطة المحلي في محاولة للحصول على معلومات استباقية بشأن أي تهديدات محتملة لحدوث عنف ضد المستشفى، وعن احتمالية أن يمتد القتال الدائر في المدن النائية ليصل إلى لانكين. كان المأمور جالساً في ملابسه الأنيقة خلف مكتبه يستمع إلى عبدالوصي باهتمام شديد، ووافق على بذل قصارى جهده لنشر وتعزيز الرسالة بين أفراد المجتمع أن المستشفى يعالج أي شخص بغض النظر عن انتمائه القبلي أو العشائري، وأنه ممنوع دخول أي أسلحة إلى داخل المستشفى، فحتى الحراس الذين تستعين بهم منظمة أطباء بلا حدود غير مسلحين.

يعد قبول مبادئ الاستقلالية وعدم التحيز والحياد على نطاق واسع وسيلة المنظمة الأساسية لحماية مرافقها وموظفيها. ولكن في النزاعات ما بين المجتمعات المحلية – مثل تلك التي تشهدها ولاية جونقلي – حيث لا يتم فهم القانون الدولي الإنساني بشكل كامل، من المهم جداً أن تعمل المنظمات الطبية مع جميع الجماعات والمجتمعات المسلحة لترسيخ احترام سلامة المرافق الطبية والموظفين عبر حشد قبول حقيقة أن جميع الأطراف بحاجة إلى الحصول على الرعاية الصحية.

عرض ضابط مخابرات محلي، كان واقفاً إلى يسار المأمور، أن يقوم رجاله بتفقد مدرج الهبوط قبل أن يتم ترحيل بقية المصابين، كما وافق المأمور على توفير حراسة من الشرطة لوالدة أحد الضحايا لتحضر جثته كي يتم دفنها في القرية. كانت تلك الامرأة خائفة جداً من أن تغادر المستشفى بمفردها. بعد الظهر بقليل، جاء تأكيد عبر الراديو أن طائرة على وشك الوصول لإخلاء الجرحى، وخرجت المدينة بأكملها إلى محيط مدرج الهبوط وهو عبارة عن شريط تم اقتطاعه وسط الأحراش. اصطف العاملون في المستشفى على طول المدرج الترابي الذي يمتد لعدة كيلومترات لمنع الأطفال والماشية من العبور أمام الطائرة أثناء هبوطها. أشرف عبدالوصي على عملية نقل المرضى المحمولين على نقالات وكراسي متحركة لمسافة 500 ياردة (458 متراً) من مدخل المستشفى وحتى المدرج. وكان من بين المرضى الشابان المصابان اللذان بقيا على قيد الحياة، وصبي ساقه مكسورة، وامرأة حامل تعاني من مضاعفات.

بمجرد هبوط الطائرة وبينما كان يتم نقل المرضى إلى مدرج الهبوط ليتم إصعادهم إلى الطائرة، تقدم شاب طويل نحو الفريق الطبي وهو يحمل سكيناً بالكاد يخفيه. اقترب إلى الشاب عدة موظفين محليين ليستفسروا عما يريده. حاول الرجل أن يشرح لهم أنه شقيق أحد الجرحى الذين يتم حملهم إلى الطائرة وأنه يرغب في توديعه. وبعد لحظات من التوتر، تراجع الشاب ثم غادر المكان. بعد إقلاع الطائرة، تلقى عبدالوصي مكالمة عبر هاتفه الذي يعمل بالأقمار الاصطناعية، تخبره أن تسعة جرحى آخرين في طريقهم إلى المستشفى بعد جولة جديدة من القتال، ما يعني أن الفريق الطبي سيضطر إلى تكرار السيناريو كله مرة أخرى.

جزء من ساحة المعركة
للأسف، لجنوب السودان تاريخ طويل من العنف ضد المرافق الطبية والعاملين الصحيين والمرضى والمركبات الطبية – سواء قبل أو بعد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب لدرجة أنه لا يمكنك تحديد إذا ما كان الأمر الآن أسوأ أم أفضل مما كان عليه الحال خلال ذروة النزاع. ولكن بالتأكيد أن المسار الحالي للأمور ليس مطمئناً.

في عام 2007، شهدت منظمة أطباء بلا حدود حادثاً خطيراً قتل خلاله العديد من المرضى والموظفين الذين ينتمون إلى قبيلة المورلي ممن تم إرسالهم إلى مستشفى في مدينة بور عاصمة الولاية – وهي منطقة تقطنها غالبية من قبيلة الدينكا، حيث قتل هؤلاء داخل مجمع المستشفى كنوع من الانتقام ضمن العنف بين المجتمعات المحلية الدائر هناك. منذ ذلك الوقت، تم تدمير أو نهب المرافق الطبية التابعة للمنظمة مرات عديدة. وقد اعترف مرتكبو تلك الهجمات علانية أن استهدافهم لهذه المرافق هو وسيلة لمنع وصول الرعاية الصحية للمجتمع. وبذلك، بات تدمير الخدمات الطبية سلاحاً وتكتيكاً حربياً في الوقت نفسه.

التهديدات التي تتعرض لها المرافق الطبية، وتلك الموجهة ضد الموظفين والمرضى لا تقتصر على ولاية جونقلي وحدها، ففي شهر أبريل، في مقاطعة بودي في ولاية شرق الاستوائية، انتهى الأمر بقوات الجيش الشعبي لتحرير السودان (SPLA) التي تم إرسالها للقبض على لصوص الماشية، بالدخول في مواجهة مسلحة مع المجتمع المحلي، ما أدى إلى قتل عدد غير معروف من المدنيين، ونهب وحرق قرى بأكملها. وفيما بعد، قال دايفيد نايلو مايو – وهو عضو في البرلمان – لصحيفة في جنوب السودان، أنه في خضم القتال، تم “جر أحد الأطباء من داخل المستشفى، وقتله أمامها، كما قتل اثنان من الطاقم الطبي وأحد المرضى. أي أنه تم قتل أربعة أشخاص في المستشفى فقط، قبل أن يقوم الجنود بإضرام النيران فيها”. تبين هذه الحادثة الأخطار التي يتعرض لها العاملون الطبيون والمرافق الطبية في أي مكان في البلاد.

وبينما تجد الطواقم الطبية، والمرضى والمرافق الطبية أنفسها محاصرة وسط نيران العنف بين المجتمعات المحلية بصورة منتظمة، إلا أن بعض أخطر الانتهاكات في الفترة الأخيرة نجمت عن أول نزاع داخلي في جنوب السودان منذ استقلالها. في مقاطعة بيبور الجنوبية التابعة لولاية جونقلي، يحارب الجيش الشعبي لتحرير السودان ميليشيا ياو ياو، وهي مجموعة تطالب حكومة جنوب السودان بالتحقيق في ادعاءات الفساد وتلبية احتياجات السكان المهمشين من قبيلة مورلي الذين يأتي منها معظم مقاتليها. ومنذ شهر مارس 2013، انتقل خط المواجهة إلى مسافة تبعد أقل من نصف ميل عن بوابات مستشفى منظمة أطباء بلا حدود. وقد أدى تصعيد المعركة بين الجيش الشعبي وميليشيا ياو ياو إلى سقوط العديد من الضحايا من الجانب الحكومي. لقد كان القتال قريباً جداً لدرجة أن أعداداً كبيرة من الجرحى كانت تتوافد إلى المستشفى وما زال التراب يملأ جروحهم. وقام الفريق الطبي الذي يعمل في بيبور – بمساعدة من فريق جراحي من اللجنة الدولية للصليب الأحمر – بمعالجة 123 جريحاً من تلك الحرب بينهم 105 من جنود الجيش الشعبي.

وقد تزامنت هذه الزيادة الكبيرة في أعداد الجرحى من الجيش الشعبي لتحرير السودان مع غياب تام لاحترام المقاتلين لعدم تحيز وحياد الفريق الطبي واحترام المرضى الأخرين في المستشفى. يقضى المهنيون الطبيون الدوليون وقتاً طويلاً في جنوب السودان (ومعظم الأماكن التي نعمل فيها)، لشرح نوايانا ومنهجنا الذي يقوم على الالتزام بأخلاقيات مهنة الطب والقانون الدولي الإنساني الذين يقتضون أنه يجب معالجة وحماية من يصاب من المقاتلين إذا طلب الرعاية الطبية ولم يكن يحاول في تلك اللحظة أن يعود مرة أخرى إلى ساحة المعركة.

على الرغم من ذلك، فعلى مدار أسابيع من التوتر خلال الاشتباكات بين ميليشيا ياو ياو والجيش الشعبي، تعرض الطاقم الطبي للتهديد، وقام جنود الجيش الشعبي من الجرجى والذين كانوا يشتبهون في جميع المصابين بأعيرة نارية، بالتحقيق معهم أثناء الليل. كان الجنود يدخلون المستشفى أحياناً مع أسلحتهم، وهو ما يعد انتهاكاً لمبادئنا بعدم السماح بدخول الأسلحة إلى المرافق الطبية. وكثيراً ما كان يطالب هؤلاء الجنود بعلاج رفقائهم أولاً بصرف النظر عن مدى خطورة الحالات الأخرى، الأمر الذي أثار قلق الطاقم الطبي بشأن قضايا السلامة وكذلك أخلاقيات مهنة الطب.

تم إطلاق قذيفة صاروخية من طراز آر بي جي فوق المجمع الطبي. بل أن المقاتلين السابقين، غادروا أسرتهم للعودة إلى ساحة المعركة في مرحلة ما، وكانوا يطلقون أسلحتهم بينما ما زالوا على حدود أرض المستشفى، ما أضفى بالفعل الصفة العسكرية على المستشفى وجعلها طرفاً في الحرب وهدفاً ممكناً للميليشيا بموجب القانون الدولي الإنساني. الآن، أصبح المستشفى جزءاً من ساحة المعركة.

مخاطر واضحة وحاضرة
بالإضافة إلى المخاطر الواضحة التي يتعرض لها موظفو المستشفى والمرضى، فقد أثر تراجع مدى احترام الحياد وعدم التحيز اللذين يتمتع بهما الموظفون في المستشفى والمرفق الطبي في بيبور خلال أشهر يناير وفبراير ومارس، بشكل كبير على عملية تقديم الرعاية الطبية إلى السكان المحليين. فخلال هذه الفترة، شهد الفريق الطبي تراجعاً بنسبة 50 في المئة في أعداد الاستشارات الطبية داخل المستشفى مقارنة مع الأشهر السابقة.

تأرجحت نسبة الاستشارات بصورة كبيرة من حالات إصابة بالملاريا خلال شهر فبراير إلى حالات جميعها تقريباً لها علاقة بالإصابات البليغة خلال شهر مارس. في جناح التوليد، انخفضت حالات الولادة من 42 حالة في شهر يناير إلى 22 في الشهر التالي ثم إلى 11 حالة فقط في شهر مارس. كانت النساء الحوامل خائفات من الذهاب إلى المستشفى، وكن يتعاملن مع أي مضاعفات تحدث أثناء الولادة في بيوتهن. وتكرر الوضع نفسه في برنامج التغذية العلاجية للمرضى الخارجيين للأطفال الذين يعانون سوء التغذية، فقد انخفض عدد المرضى من 43 إلى 22 إلى ثمانية فقط، بينما كان معدل المرضى الذين لم يستكملوا علاجهم يرتفع شهراً بعد شهر من 27 في المئة إلى 44 في المئة ثم 65 في المئة. لقد كان للتغيير الذي حدث لبيئة المستشفى تأثيراً مباشراً على توفير الرعاية الطبية لمجموعة من السكان يعتمدون اعتماداً كلياً على هذا المرفق الوحيد.

ثم في أواخر شهر أبريل، قامت مجموعة من الرجال المسلحين ممن كانوا يبحثون عن الطعام في منتصف الليل بتهديد الفريق الطبي الذي يدير المستشفى في بيبور. بعد التأكد من أنه لم يعد ممكناً تأمين الحد الأدنى من السلامة لموظفينا، تم تعليق عمل المستشفى وإجلاء الفريق إلى العاصمة جوبا. بعد ثلاثة أسابيع، نهب جنود الجيش الشعبي المستشفى بصورة منتظمة أثناء انسحابهم من المنطقة، كما قاموا بفتح علب الدواء ونثر الحبوب على أرض المستشفى. ويقدر عدد من فقدوا وسيلتهم الوحيدة للحصول على الرعاية الطبية بنحو 120,000 شخص من قبيلة المورلي خلال ذروة موسم الأمطار وزيادة احتمالات تفشي وباء الملاريا. على الرغم من أنه لا يتم في العادة احتساب مثل هذه الحالات، إلا أن هؤلاء الناس أصبحوا، بصورة ما، ضحايا حرب.

أحد التحديات التي تواجه الفرق الطبية في مثل تلك البيئات هو إيجاد وسيلة لتحليل الأهداف وراء هذه الهجمات ومعرفة الإجراءات التي يمكن أن يتخذوها لحماية أنفسهم ومرضاهم. هناك فرق شاسع بين نهب المرافق الطبية لأسباب مالية، والهجوم عليها بسبب ما تمثله من قيمة للسكان خلال فترة النزاع. معرفة الدوافع أمر مهم، حتى لو كان من الصعب تحديد الأهداف من ورائها. قرار إعادة تشغيل البرامج الطبية المتوقفة يعتمد في كثير من الأحيان على مزيج من عدة عوامل منها مدى التعمد عن تنفيذ الهجمات السابقة – أي إذا كان استهداف العاملين والمرافق الطبية مباشراً ومقصوداً – وكذلك حجم التهديد بحدوث عنف في المستقبل.

لقد قامت قبيلتا النوير والمورلي بتدمير المرافق الصحية حتى لا يستفيد منها الطرف الآخر. إلا أن الأطراف المعتدية من الجانبين نادراً ما تسعى إلى السيطرة على المكان أو الاحتفاظ به. لذلك، يمكن إعادة بناء المرافق الطبية ويمكن للموظفين الصحيين العودة مرة أخرى وبدء تقديم الخدمات في عمق الأراضي التي تسيطر عليها كل قبيلة. بالطبع، تغطي عمليات قتل النساء والأطفال والرجال خلال الهجمات على أي فقدان أرواح قد يحدث نتيجة الحرمان من الخدمات الطبية على المدى القصير. ولكن شيوع التهديدات للمرضى والتي يمثلها انتشار جنود الجيش الشعبي داخل المرافق الطبية الرئيسية وحولها في مقاطعة بيبور تسبب في حرمان أجزاء كبيرة من السكان من قبيلة المورلي من الحصول على الرعاية الصحية.

وحتى في المنطقة الجغرافية الواحدة، تتفاوت الدوافع وراء شن الهجمات على مرافق الرعاية الطبية بصورة كبيرة، كما تتنوع الوسائل والاستراتيجيات التي قد تستخدمها المنظمات لمقاومة هذه التجاوزات أو منعها.

اتفاقية جنيف
الهجمات التي تستهدف المرافق الطبية والموظفين والمرضى ليست جديدة، فالعديد من الوثائق التي تظهر تعرض المرافق الطبية للقصف واستخدام مقاتلين مصابين كدروع بشرية، يعود تاريخها إلى الثورة الأمريكية وحتى قبل ذلك. أسس هنري دونان، وهو رجل أعمال سويسري، أول لجنة للصليب الأحمر بعد أن شهد آثار معركة سولفرينو في إيطاليا عام 1859. وقد كان كتابه مصدر إلهام لإنشاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عام 1863 – لا تزال هناك نسخة من الطبعة الأولى من الكتاب معروضة في مدخل المقر الرئيسي في جنيف – وبعد عام، أي في 1864، نظمت اتفاقية جنيف سبل رعاية ومصائر المرضى والموتى الذين تخلفهم ساحات الحرب.

لم يتم توسيع القانون الدولي وتعزيزه ليحمي جميع الجرحى والمرضى وكذلك الأنشطة الطبية والمرافق المدنية والعاملين، إلا بعد الحرب العالمية الثانية في اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949، والبروتوكول الأول الإضافي لسنة 1977. كانت هذه الحماية تغطي كذلك الجماعات في النزاعات المدنية والداخلية. ولكن اليوم، لم تعد هذه القوانين تميز بين المدنيين والمقاتلين عند علاج الجرحى والمرضى – وذلك لتجنب النقاش والمشكلات فيما يتعلق بوضع بعض أعضاء الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة، أو حالات المدنيين الذي يشاركون في الأعمال القتالية بشكل مباشر. ينص القانون الدولي الإنساني على ضرورة احترام وحماية أفراد الخدمات الطبية المخصصين حصرياً لأداء مهام طبية، في جميع الظروف. كما تشمل هذه الحماية كذلك وسائل النقل الطبي مثل سيارات الإسعاف. ولكن يفقد العاملون في المجال الطبي والمرافق ووسائل النقل تلك الحماية إذا تركوا وظائفهم الإنسانية وارتكبوا أعمالاً تضر بالعدو. من هنا لا يقع عبء احترام مبادئ الحياد وعدم التحيز وأخلاقيات مهنة الطب على عاتق الأطباء وطواقم التمريض فحسب، وإنما أيضاً على عاتق المقاتلين، سواء كانوا تابعين للدولة أو غير تابعين.

علاوة على ذلك، تحظر البروتوكولات الإضافية لاتفاقية جنيف معاقبة العاملين في المجال الطبي لالتزامهم بالمعايير الأخلاقية للمهنة، وتمنع إجبار مقدمي الخدمات الصحية من الانخراط في أعمال تتعارض مع أخلاقيات مهنة الطب.

تمويه طبي
وراء توثيق حالات استهداف المرافق ووسائل النقل الطبية والموظفين والمرضى، هناك محاولة لفهم الأضرار الجانبية لهذه الهجمات – فقدان المجتمعات والسكان ممن ليس لديهم مكان آخر يلجأون إليه للخدمات الصحية.

استخدام المساعدات الطبية للتمويه والحصول على ميزة عسكرية يهدد حياة المرضى في أكثر الأماكن خطورة حول العالم، فتوفير الرعاية الصحية للناس في المناطق المضطربة التي غالباً ما تكون نائية، يتطلب العمل المضني بشكل يومي لكسب ثقتهم وإثبات الحياد والاستقلالية عن النزاعات المسيسة. كل هذا الجهد قد يضيع بسهولة عبر سوء استخدام الدول للأنشطة والمرافق الطبية لجمع المعلومات الاستخباراتية – الأمر الذي تكون تكلفته عالية من أرواح وصحة المدنيين. عند وجود أدنى شك أن نشاطاً طبياً معيناً، كحملات التطعيم على سبيل المثال، قد يكون له دوافع أخرى بخلاف توفير الرعاية الصحية، فإن النشاط نفسه والقائمين عليه، يصبحون في خطر.

في بلاد مثل باكستان، كافحت منظمات الإغاثة الإنسانية لتحظى بالقبول وتتمكن من الوصول إلى مجتمعات متشككة بالفعل من الدوافع وراء أي مساعدات خارجية. وقد استغلت الجماعات المسلحة سواء التابعة للدولة أو غير التابعة لها أي تحول في دوافع منظمات الإغاثة لمنع الوصول إلى السكان المحليين. ففي عام 2011، يقال أن الحكومة الأمريكية استخدمت برنامجاً وهمياً للتطعيم خلال بحثها عن أسامة بن لادن. وقع الضرر تقريباً في الحال، وسيستمر لمدة طويلة، فبعد عامين، ما زالت الجماعات المسلحة تستخدم الحادث كمبرر لقتل القائمين على التطعيم ضد شلل الأطفال في باكستان ونيجيريا، وهما من بين آخر الأماكن المتبقية لذلك الفيروس المسبب للشلل.

على غرار باكستان، تتعرض الأنشطة الطبية للعديد من الانتهاكات التي تدمر ثقة المرضى الذين يتعرضون للهجوم لمجرد أنهم يلتمسون الرعاية الطبية. في أكتوبر 2009، تعرض المئات من النساء والأطفال ممن تجمعوا للمشاركة في حملة تطعيم في إقليم شمال كيفو في جمهورية الكونغو الديمقراطية، لهجمات في سبع قرى منفصلة خلال الهجمات التي شنها الجيش الكونغولي ضد القوات الديمقراطية لتحرير رواندا (FDLR). وقد وقعت هذه الهجمات بعد تلقي الفرق الطبية ضمانات أمنية من جميع الأطراف المشاركة في النزاع للقيام بالحملة في تلك المناطق، والتي من دونها يتعذر على وزارة الصحة الوطنية الوصول إليها.

استخدام المساعدات الطبية كطُعم للحصول على مكاسب عسكرية حطم ثقة المرضى في الخدمات الصحية، ما تسبب في المزيد من المعاناة لشعب يتعرض بالفعل للعنف وخطر التشرد. لم يحصل هؤلاء الأطفال على التطعيم في ذلك الوقت. وبسبب ما حدث، يمكننا التماس العذر لهؤلاء الناس إذا تشككوا في الحملة القادمة واعتبروها مجرد خدعة أخرى.

تم تقويض ثقة المرضى في المرافق الصحية حتى في البحرين في أبريل 2011، عندما أُستغلت المرافق الصحية لتصفية حسابات سياسية وللقمع والضرب ، الأمر الذي جعل من جرحوا خلال تلك المواجهات يخشون طلب العلاج. وحينما تصبح المستشفيات هدفاً عسكرياً، ويصبح النظام الصحي أداة في يد جهاز الأمن، لم يعد المرضى قادرون على الحصول على حقوقهم في العلاج ضمن بيئة آمنة، ولم يعد أفراد الطاقم الطبي قادرون على الوفاء بواجباتهم الأساسية في توفير الرعاية الصحية للمرضى بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية. والأمثلة كثيرة. في مدينة دينصور في الصومال في عام 2006، دخلت القوات الإثيوبية، بعد سيطرتها على البلدة، إلى مستشفى منظمة أطباء بلا حدود، وأجبرت الموظفين المحليين على تسليمها سجلات طبية سرية. كان المستشفى يعالج المرضى من جميع أطراف القتال في المنطقة. لقد كان ذلك انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي الإنساني.

انتفاع الأطراف المتحاربة
من أبرز تكتيكات محاربة التمرد المسلح، المنافسة للحصول على دعم السكان المحليين، وكان هذا الأمر أكثر وضوحاً في أفغانستان، فطوال فترة وجود القوات الأمريكية وقوات الناتو منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، كان توفير الخدمات الصحية (أو الحرمان منها) أحد المصادر الرئيسية لانتفاع جميع الأطراف المتحاربة في النزاع. وقد كان لعدم احترام جميع الأطراف المتحاربة للعاملين الصحيين أو المرافق الطبية عواقب وخيمة، فتم استهداف المستشفيات والعيادات والعاملين في المجال الطبي من قبل جماعات المعارضة المسلحة مثل حركة طالبان، فيما قامت القوات الحكومية الأفغانية والقوات الدولية مراراً بمداهمة واحتلال المرافق الصحية.

في شهر مايو 2009، دمرت جماعة مسلحة عيادة في مدينة نادر شاه خوت في ولاية خوست، وقامت بتهديد الطاقم الطبي. وفي نوفمبر، أحرق مسلحون عيادة صحية تماماً في منطقة دامان في ولاية قندهار الجنوبية. كما أن لجماعات المعارضة المسلحة كذلك علاقة بعمليات القتل والاعتداءات واختطاف عمال الإغاثة، بما في ذلك زيادة استخدام الأجهزة التفجيرية يدوية الصنع.

جماعات المعارضة المسلحة ليست الوحيدة المسؤولة عن إساءة استغلال الرعاية الصحية، ففي أواخر شهر أغسطس عام 2009، داهمت القوات الأفغانية وقوات الناتو عيادة في باكتيكا بعد أن وصلتها معلومات أن قائداً معارضاً يتم علاجه داخلها، الأمر الذي أسفر عن مقتل 12 مسلحاً بدعم من طائرات مروحية كانت تطلق النار على المبنى. بعد ذلك بأسبوع، داهمت القوات الأمريكية مستشفى في مقاطعة ورداك تدعمه اللجنة السويدية لأفغانستان، حيث قام الجنود بتفتيش المستشفى، وأجبروا المرضى طريحي الفراش على مغادرة غرفهم، بل أنهم قاموا بتقييد الموظفين والزوار. وفي طريقهم للخروج، أمروا الموظفين بإبلاغ قوات التحالف عن أي حالات دخول لمسلحين مشتبه بهم. في الشهر نفسه، استنكر مدير دائرة الصحة في ولاية هلمند، احتلال القوات الأفغانية والأمريكية لعيادة في مينابوشتا قائلاً: “الناس خائفون ولا يريدون الذهاب إلى هذه العيادة”. وتم إغلاق العيادة في نهاية المطاف.

من المهم التنويه إلى أن المرافق الطبية كان يتم احترامها في بعض المناطق التي كانت تسيطر عليها حركة طالبان. إلا أنه وبسبب أن المستشفيات والعيادات كانت ضمن صميم حملات قوات التحالف للفوز بالقلوب والعقول في أفغانستان – وبالتالي كانت رموزاً للـ”معارضة” بدلاً أن تكون مراكز رعاية محايدة وغير متحيزة تهتم بالمرضى والجرحى – كانت الرعاية الطبية جزءاً من فضاء المعركة، بدرجات متفاوتة، طوال فترة النزاع.

سوريا: اصطياد الأطباء
ربما لم يشهد أيّ من النزاعات المعاصرة هجمات منسقة على المرافق الصحية مثل تلك التي يشهدها النزاع الدائر في سوريا. شهدت البلاد أول احتاجاجات كبرى يوم 15 مارس 2011 في مدينة دمشق. ومع مرور الأسابيع، تضاعفت أعداد المتظاهرين، ولكن سرعان ما وجدوا أنفسهم في مرمى النيران عندما حاولت قوات الأمن أن تقمع المظاهرات التي كانت سلمية حينها. اعتقد النشطاء المصابون أنه بإمكانهم طلب الرعاية في المستشفيات الحكومية والخاصة إذا تطلب الأمر، حيث كانت تلك المرافق تمتلك الوسائل التقنية والخبرات والموارد اللازمة لعلاج الإصابات البليغة. فرغم كل شيء، كان لدى سوريا نظام رعاية صحية على مستوى عالٍ. إلا أن الرعاية الصحية تحولت من نظام يهدف إلى شفاء الناس، إلى جزء مركزي من استراتيجية الحكومة لقمع أي معارضة.

تكشف شهادات الأطباء والمرضى أن قوات الأمن تقوم بفحص المستشفيات، والقبض على الأشخاص وتعذيبهم داخلها. كما يعرض الأطباء أنفسهم للخطر بأن يتم وصمهم أنهم “أعداء للنظام” لمجرد علاجهم للجرحى، الأمر الذي قد يؤدي إلى القبض عليهم وحبسهم وتعذيبهم، أو حتى قتلهم. لذا، امتنع المصابون خلال الاحتجاجات من الذهاب إلى المستشفيات العامة بسبب مخاوف مماثلة من التعذيب وإلقاء القبض عليهم أو حتى رفض تقديم الرعاية الطبية إليهم. وهكذا، لم يجدوا أمامهم سوى أن يعهدوا بصحتهم إلى شبكات سرية من العاملين في المجال الطبي.

في درعا وحمص وحماة ودمشق، ما زالت الرعاية الصحية يتم توفيرها بعيداً عن الأعين. فأقيمت مستشفيات ميدانية داخل البيوت بالقرب من مناطق الاحتجاجات. كما تقوم المراكز الصحية التي تعالج المصابين بتقديم تشخيصات رسمية كاذبة لإخفاء حقيقة أنهم يعالجون جرحى وقعوا خلال المظاهرات. ويشكل الأمن الشغل الشاغل للأطباء العاملين في تلك الشبكات السرية.

مع اشتداد القتال، ازداد عدد المرافق الطبية التي تأثرت، ففي شهر يوليو 2011، نشر الجيش السوري دباباته في مدينة حمص. وفي فبراير 2012، تعرضت المدينة لهجوم مستمر من قبل القناصة، وكذلك لقصف مدفعي وقصف بطائرات القوات الجوية الحكومية. استمرت جهود الإغاثة ولكن بشكل سري، حيث كان المسعفون يعالجون الجرحى بينما القنابل تسقط من حولهم، فما زالت السلطات ترفض السماح بوصول المساعدات الإنسانية الدولية إلى البلاد. كما رفضت وقفاً لإطلاق النار من أجل إجلاء الجرحى.

توفر بضعة مستشفيات ميدانية الرعاية الصحية بالقرب من مناطق النزاع – وأقيمت تلك المستشفيات في الكهوف والبيوت والمزارع، وحتى في الملاجئ تحت الأرض. بعد تقديم العلاج الأوليّ، واستقرار حالة المرضى، يتم نقلهم إلى مستشفيات في أماكن أكثر أمناً.

بعد أن أصبحت عملية قمع الاحتجاجات السلمية سياسة حكومية واضحة، حملت المعارضة السلاح، وبدأت في السيطرة على مناطق معينة، ما دفع بالنزاع إلى مراحل أكثر وحشية. مرة أخرى، يتأثر القطاع الصحي بشكل خطير، فالمرافق الطبية ما زالت تستهدف ويتم تدميرها، بينما يتم تهديد وقتل العاملين في القطاع الصحي. لقد تحول توفير الرعاية الصحية إلى جريمة أو إلى عمل من أعمال المقاومة، بعدما أصبحت المرافق الطبية أهدافاً عسكرية.

في يوليو 2012، تم فتح جبهة جديدة في مدينة حلب، ودمرت العاصمة الاقتصادية للبلاد خلال عمليات القصف الجوي والقتال البري التي دمرت المباني ومن بينها المرافق الطبية، وكان بنك الدم الذي يزود مستشفيات المنطقة من بين أوائل المباني التي احترقت. يقع مستشفى دار الشفاء، وهو أكبر مستشفى خاص في مدينة حلب، في منطقة تسيطر عليها المعارضة شرق المدينة. وكان يقدم الرعاية إلى ضحايا العنف حتى تم قصفه خلال غارة جوية في شهر أغسطس من العام نفسه. وعلى الرغم من تدمير غرفة العمليات، استمر قسم الطوارئ في العمل وكان يستقبل نحو 200 شخص كل يوم. ولكن في أواخر نوفمبر، هدم المستشفى خلال القصف وأصبح غير قابل للعمل.

تم إنشاء قواعد عسكرية خاصة بالمقاومة على مقربة من المستشفيات الميدانية – بل وفي بعض الحالات، في المبنى نفسه. هذه المستشفيات في خطر شديد من أن تجد نفسها في وسط القتال، أو أن يتم استهدافها مباشرة خلال الهجمات. وفقاً للسلطات السورية، تضرر 55 مستشفى من بين 91 مستشفى عام في أنحاء البلاد، 20 منها تم تدميرها، وأصبح 35 منها غير قابل للعمل حتى شهر يونيو 2013. وللحصول على نظرة شاملة للدمار، لا بد من إضافة المستشفيات الميدانية التي أقامتها المعارضة ودمرها الجيش بعد ذلك، لقائمة المسشتفيات المتضررة.

حجم المشكلة
أصبحت الهجمات التي تستهدف البعثات الطبية – جميع الأنشطة الطبية الموجهة إلى السكان المدنيين، فضلاً عن الجرحى والمرضى – من أبرز ملامح النزاعات الأخيرة في أفغانستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وباكستان وسوريا واليمن على سبيل المثال لا الحصر. وتتفاوت هذه الحوادث من دولة لأخرى بل وداخل البلد الواحد.

على الرغم من ذلك، فلا توجد سوى إحصاءات قليلة جداً تتناول حجم ونطاق المشكلة اليوم. وتحاول اللجنة الدولية للصليب الأحمر ملء ذلك الفراغ عبر مشروعها “الرعاية الصحية في خطر” حيث تشير بيانات اللجنة الدولية في عام 2012 إلى أن أكثر من 80% من بين 900 حادث عنف تم تسجيلها في 22 دولة تضرر فيها العاملين الصحيين المحليين. في بعض الحالات، يتم شن هجمات ثانوية تستهدف فرق الطوارئ التي تستجيب أولاً. وتضمنت تلك الحوادث استخدام العنف أو التهديد باستخدامه ضد أفراد الرعاية الصحية والجرحى والمرضى وكذلك مرافق الرعاية الصحية والمركبات الطبية.

كما وجدت إحصاءات اللجنة الدولية للصليب الأحمر ما ياتي:
• يمثل مقدمو خدمات الرعاية الصحية الدوليون نسبة 7 في المئة من الحالات
• قوات الأمن الحكومية والجماعات غير الحكومية المسلحة مسؤولة عن نسبة كبيرة من حوادث العنف. نسبة أعمال العنف أو التهديدات بالعنف المنسوبة إلى القوات المسلحة غير الحكومية أو إلى قوات الأمن الحكومية تتفاوت بصورة كبيرة.
• يمثل أفراد الرعاية الصحية (الأطباء وطواقم التمريض والمساعدون الطبيون) نحو 60 في المئة من بين المتضررين بشكل مباشر.

في العام الماضي، تبنت جميعة الصحة العالمية – الهيئة الإدارية لمنظمة الصحة العالمية – قراراً يدعو الوكالة إلى “توفير كوادر قيادية على المستوى العالمي لتطوير طرق لجمع ونشر البيانات بصورة منهجية بشأن الهجمات على المرافق الصحية والعاملين الصحيين ووسائل النقل والمرضى في حالات الطوارئ الإنسانية المعقدة”. الهدف من مثل هذه الدراسات هو ملء فجوة المعلومات بشأن التأثير الطبي للهجمات على الرعاية الصحية وفهم أين تكمن المشكلة الأكثر حدة. وبعد ذلك، عندما نفهم حجم المشكلة، فإن الخطوة التالية هي العمل على هذه البيانات.

يساعد فهم وتيرة الهجمات وشدتها، المؤسسات الطبية – المحلية والدولية – في إشراك المسؤولين في الحوار. وهذا ما فعلته منظمة أطباء بلا حدود في عدد من المؤتمرات الإقليمية خلال العام الماضي في اليمن، عبر جمع ممثلين عن الجماعات المسلحة والمسؤولين الحكوميين والقادة الدينيين والممارسين الطبيين وغيرهم من عناصر المجتمع المدني، للتوصل إلى اتفاق بشأن ضرورة حماية الأنشطة الطبية. كما كان هناك اعتراف واسع بين المشاركين أن العنف يلعب دوراً كبيراً في منع المرضى من الحصول على الرعاية. ولكن لم يتم تحليل الصورة الكاملة لمعرفة تأثير العنف على المدنيين الساعين إلى الحصول على الرعاية الصحية.

فالواقع في اليمن أن العنف أصبح، ولفترة طويلة، جزءاً راسخاً من عمق النسيج الاجتماعي والسياسي، ما تطلب من المنظمات الطبية تأسيس علاقات واسعة مع الجماعات المسلحة المختلفة ومع القيادات الدينية والمجتمعية. في المكسيك، اجتمعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مع 45 خبيراً من 21 دولة لمناقشة إجراءات جديدة للتعامل مع خدمات الإسعاف – للسماح لها بالمرور الآمن خلال نقاط التفتيش المسلحة والخطوط الأمامية للمعارك.

إلى أين نذهب
الأضرار الجانبية للهجمات على المرضى والجرحى والموظفين وسيارات الإسعاف والمرافق الطبية تتجاوز كثيراً المصابين جراء تلك الانتهاكات العنيفة، فتلك الحوادث لها القدرة على خلق “صحارى” من حيث الحصول على الرعاية الصحية في العديد من النزاعات الأكثر عنفاً اليوم.

على الرغم من صعوبة التأكد من حجم هذه الظاهرة، إلا أن التحدى الحقيقي يكمن في إيجاد وسائل لمنع هذه الأعمال من الحدوث. المسؤولية الأساسية لوقف عمليات استهداف وعرقلة وانتهاك الخدمات الطبية تقع على عاتق الدول والأطراف المشاركة في النزاع. ولا بد من دعم العاملين في المجال الصحي أداء واجباتهم الطبية. كما يجب على الدول ضمان اتخاذ جميع التدابير الممكنة لحماية العمل الطبي من خلال التشريعات الوطنية، وأن يتم تنفيذ تلك التدابير.

يتعين على جميع الأطراف سواء كانت تابعة للدولة أم لا أن تنفذ وتحترم سياسات ابقاء أماكن العمل الصحي خالية من السلاح، والامتناع عن استخدام القوة ضد المرافق أو المركبات أو المباني الصحية أو الإنسانية الخالية من الأسلحة. كما يجب عليها التعهد بعدم اعتقال المرضى أو استجوابهم خلال فترة إقامتهم في المرافق الطبية.

عندما توفر الفرق المسلحة الأمن أو المساعدات الطبية للفوز بـ”عقول وقلوب” الناس، أو عندما يتم تسليح المستشفيات، فإن النتائج يمكن أن تكون كارثية على المرضى والعاملين في مجال الرعاية الصحية. وعندما يقوم أحد الأطراف بتسليح المدارس أو المرافق الصحية أو قوافل الإغاثة، فإنها جميعاً تصبح أهدافاً محتملة للجانب الآخر. يجب على جميع الأطراف المتحاربة الالتزام بالاعتراف بالمرافق الصحية وسيارات الإسعاف على أنها “ملاذات خالية من السلاح”، وبالتالي بعيدة عن العمليات القتالية أو الشرطية أو الاستخباراتية. ولا بد من تنفيذ تلك الالتزامات منذ بداية أي نزاع.

أسلوب الخطاب أمر بالغ الأهمية أيضاً، فمن الضروري أن تميز الأطراف المتحاربة سواء كانت تابعة للدولة أم لا في أحاديثها العامة وفي طرق انتشارها العسكري بشكل واضح بين الجهات التي تقوم بتوصيل المساعدات والتي تتبع طرف معين، وبين الجهات الإنسانية غير المنحازة لأي طرف. إن خلط الدوافع لتقديم المساعدات منحدر زلق يقوض قبول جميع أشكال المساعدات الطبية. بالإضافة إلى ذلك، تقع على عاتق المنظمات الطبية والإنسانية مسؤولية أن تظل وفية لمبادئها وألا تسمح بتسيس خدماتها.

ولكن لا يمكن تقسيم الهجمات على الرعاية الطبية دائماً إلى تصنيفات واضحة. فيجب على منظمات الإغاثة الطبية أن تستمر في تحليل المخاطر والتهديدات، مع الالتزام بأساسيات الأخلاقيات الطبية، بأن يكونوا على دراية بالتفاعلات الاجتماعية والاقتصادية، وتحركات القوة الحاصلة في المناطق التي يعملون فيها. لقد أظهرت السنوات الأخيرة ميل الدول – حتى تلك التي شاركت في وضع قوانين الحرب – وكذلك الأطراف غير التابعة للدولة، إلى تجاهل ضرورة وجود ولو الحد الأدنى من الاحترام لمهنة الطب والحق في الحصول على الرعاية الطبية في مناطق النزاع. تقع حماية المرضى والجرحى في صلب اتفاقية جنيف. ويتعين على المنظمات الطبية ومنظمات الإغاثة إيجاد وسيلة للتفاوض بشأن توفير مساحة آمنة لموظفيها والمرضى.

يمثل العنف بجميع أشكاله – ضد المرافق الصحية والعاملين فيها – أحد القضايا الإنسانية والأمنية المهملة في عصرنا الحالي وأكثرها خطورة وتعقيداً. الرعاية الطبية تفيد الجميع، ولا بد أن يكون بمقدور أي شخص بحاجة إلى الرعاية الطبية أن يحصل عليها بسهولة ومن دون قيود.

بقلم: جاسون كون وفرانسواز دوروك


جاسون كون مسؤول تنفيذي في منظمة أطباء بلا حدود في الولايات المتحدة، وأجرى مؤخراً تقييماً للمخاطر في المرافق الطبية التابعة للمنظمة في جنوب السودان. والدكتورة فرانسواز دوروك، خبيرة في العنف الجنساني، ومديرة مشروع المنظمة “الرعاية الطبية في مرمى النيران”.

ترجمة: الهتلان بوست

المقال باللغة الإنجليزية: http://www.worldpolicy.org/journal/fall2013/Medicine-in-Crossfire