أمير طاهري
أمير طاهري
كاتب و محلل إيراني

نموذج جون كيري للاستسلام الاستباقي

آراء

في محاولة منه للتمهيد للمباحثات المتوقعة حول الشأن السوري، طرح وزير الخارجية الاميركي، جون كيري، تحليلا من المؤكد أنه سوف يصم تلك المباحثات بالفشل من الوهلة الأولى.

فقد قال كيري: «حصيلة ما يجري الآن (أي الحرب الأهلية في سوريا) لن تحدده أرض المعركة، بل طاولة المفاوضات».

ورغم أن تلك العبارة ربما تكون مفيدة للعملية التفاوضية، فإن الاتكال عليها كأساس في صناعة السياسات أمر مخز بحق، فلو أن كيري لديه قدر من العلم بالتاريخ فسوف يعرف أن نتائج الحروب تتحدد على أرض المعركة. والحروب تشتعل عندما لا يصبح الوضع القائم غير مهيأ لضمان نوع من التوازن بين قوى متعارضة داخل الحكومة التي تدير شؤون الدولة. وعندما يحدث ذلك، يصبح الوضع القائم غير ملائم لواحد أو أكثر من العناصر المشتركة في ذلك النظام الحاكم، مما يشجع واحدا أو أكثر من تلك العناصر لمحاولة كسر ذلك الوضع القائم بالقوة، من خلال إشعال صراع مع العناصر الأخرى التي ترى أن مصالحها في استمرار النظام القائم.

توصف السياسة على وجه العموم، والتحركات الدبلوماسية على وجه الخصوص، بأنها مثمرة عندما تساعد في عدم انهيار الوضع القائم. فما إن يحدث ذلك الانهيار، تصير السياسة والدبلوماسية جزءا من أسلحة الحرب. بمعنى آخر، يمكن وصف الحرب بأنها امتداد للعملية السياسية ولكن عن طريق وسائل أخرى. كما تعد السياسة والدبلوماسية من الأدوات المفيدة في تنظيم حالة ما بعد الحرب من خلال مساعدة الطرف الخاسر على تقبل الهزيمة وتشجيع الطرف المنتصر على تهدئة مشاعر الغرور بالنصر.

بيد أن الهدف الوحيد الذي تسعى إليه الأطراف المتحاربة هو الظفر بالنصر على أرض المعركة. والطرف الذي يمشي وراء وهم أنه سوف يحقق النصر من خلال المفاوضات هو جد واهم وسيخرج من المعركة مهزوما بلا شك.

وحسب اعتقاد المؤيدين للفكر التفاوضي، تصبح السياسة والدبلوماسية مفيدة في حشد التأييد الداخلي وإيجاد المزيد من الحلفاء ومحاولة بث الفرقة في معسكر الأعداء. كما أن القوى الخارجية المهتمة بنتيجة الحرب تستطيع الاعتماد على السياسة الدبلوماسية في حشد الدعم للطرف الذي تؤيده. أما القوى التي تختار عدم الوقوف بجانب أي من الأطراف المتحاربة فتصبح حليفا للطرف الذي تكون له الغلبة في أرض المعركة في أي مرحلة من مراحل الصراع.

في بداية الصراع السوري، بدا أوباما وقد فطن إلى تلك الحقائق. وعندما صرح بوضوح بأن الرئيس بشار الأسد «يجب أن يرحل»، فقد اختار بذلك أن يقف بجانب أحد الطرفين المتصارعين.

بيد أنه وبعد ثلاثة أعوام من اندلاع الصراع، عكست تصريحات كيري تغير موقف رئيسه، فكيري يتظاهر الآن بأن أميركا تبني آمالها على التوصل لـ«حل سياسي».

ولا يحتاج المرء إلى الرجوع إلى سجلات حروب الإنسانية الأولى التي اندلعت منذ فجر التاريخ ليدرك بسهولة أن أي حرب تنتهي بانتصار أحد الطرفين، والأهم أن يقر الطرف الآخر بالهزيمة.

حتى الحروب التي تبقى على مدى قرون، مثل الثنائيتين الشهيرتين، الحرب بين الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية، أو حرب المائة عام بين إنجلترا وفرنسا، لا تتوقف حتى يقر أحد الطرفين بالهزيمة.

في الحرب العالمية الأولى، بدأت محاولات تحجيم نتائج الحرب من خلال العمل الدبلوماسي مع طلقات الرصاص الأولى، بيد أن اعتراف ألمانيا بالهزيمة هو الذي كان له الأثر الأكبر في بلورة تلك النتائج. حتى خلال الحرب العالمية الثانية، لم تتأخر الجهود الدبلوماسية كثيرا، فقد بعث النازيون رودلف هس، الرجل الثاني بعد هتلر، في مهمة سرية إلى إنجلترا للتفاوض بشأن صفقة سلام، إلا أن الأمر لم ينجح. وخلال الفترة من عام 1942 وحتى 1944، أجرى الحلفاء (بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة) مباحثات في استوكهولم مع مبعوثي هتلر، في محاولة للتوصل لـ«حل دبلوماسي»، لكن نتيجة الحرب حددتها الأدخنة المتصاعدة من الدمار على أرض المعركة في برلين.

وما يحدث في الحروب بين الأمم ينطبق أيضا على حالات الحروب الأهلية، والحروب الأهلية في رومانيا خير مثال على ذلك، فقد اختبرت تلك الحروب قوة ماريوس ضد سولا، وقوة قيصر ضد بومبي. كما أن الحرب الأهلية في إيران بين خوسرو برويز وبهرام جوبين تعد مثالا جيدا آخر لهذا الطرح.

ليست هناك فترة زمنية محددة لاستمرار الحروب الأهلية، فقد تستمر الحروب الأهلية أسابيع قليلة أو تبقى مشتعلة على مدى عقود طويلة. فقد استمرت الحرب الأهلية في إنجلترا على مدار ستة عشر عاما، وبقيت الحرب الأهلية الأميركية مشتعلة لمدة أربعة أعوام، بينما استمرت الحرب الأهلية في المكسيك عشرة أعوام. واستمرت الحرب الأهلية التي اشتعلت في روسيا عقب استيلاء البلاشفة على السلطة مدة ثلاثة أعوام، وهي نفس الفترة التي استمرت خلالها الحرب الأهلية الإسبانية التي انتهت بانتصار كتائب الفلانخيين. واستمرت الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1950 في شبه جزيرة الملايو قرابة أحد عشر عاما، بينما وضعت الحرب الأهلية في نيجيريا التي اشتعلت في فترة الستينات من القرن الماضي أوزارها بعد أربعة أعوام. كما استمرت الحرب الأهلية في لبنان نحو خمسة عشر عاما، واستمرت الحرب الأهلية، التي لا تزال مشتعلة تحت الرماد، في الكونغو – كينشاسا مدة 20 عاما.

في حالة الحروب الأهلية، تقف القوى الخارجية بجانب أحد الأطراف المتحاربة، أما القوى التي لا تنحاز إلى أي طرف تجد نفسها في نهاية الحرب تنتهي في الطرف الخاسر.

أما الموقف الأميركي من الحرب في سوريا، فله أهمية خاصة لسببين:

الأول، أن أميركا، شئنا أم أبينا، هي القوة الخارجية الوحيدة القادرة على اختصار أمد أي حرب أهلية إذا قررت الوقوف بجانب أحد الطرفين. الثاني، ما لم تأخذ الولايات المتحدة بزمام المبادرة، فلن تستطيع الدول الأخرى، القادرة على إحداث الفارق من خلال مساعدتها التمرد ضد الأسد، من فعل أي شيء إلا التلويح الدبلوماسي.

وبرفضها الوقوف بجانب أي من الطرفين، منحت إدارة الرئيس أوباما ميزة كبيرة للقوى التي تدعم الأسد، وفي القلب منها روسيا والجمهورية الإسلامية الإيرانية، من خلال تقليل تكاليف سياستهم القمعية في سوريا.

وربما يدخل قرار أوباما – كيري بقبول الهزيمة من دون القيام بأي محاولة لاتخاذ موقف محدد، التاريخ السياسي على أنه نموذج لما يمكن الاصطلاح عليه بـ«الاستسلام الاستباقي».

لكن الخبر السار في هذا الأمر أن الشعب السوري يتمتع برباطة جأش وقوة أكثر مما ظن أوباما وكيري.

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط