محمد القنيبط
محمد القنيبط
كاتب و اكاديمي سعودي

أبو أحمد «وشيء لم يقال»!

آراء

رحم الله وزير التربية والتعليم الأسبق الدكتور محمد الأحمد الرشيد الذي طارت الركبان بأخباره، حينما أدار دفة الوزارة وبعد تركه الوزارة، ولم يتوقف اهتمام محبيه بأخباره حتى بعد وفاته بعد صلاة العشاء يوم السبت 20 محرم 1435هـ، تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنانه.

لا أستطيع الحديث عنه من جوانب عمله في الوزارة، بسبب بعدي عن الوزارة، وبالتالي لن أستطيع إضافة شيء ذي أهمية في حق هذا الرجل المبتسم والمتواضع دائماً، بخاصة في ظل عشرات مقالات الرثاء التي حفلت بها الصحف، وأراهن بأنه لم يحفل وزير ترك الوزارة منذ أعوام بمثل هذا العدد الضخم من مقالات الرثاء من شرائح المجتمع كافة، رحم الله أبو أحمد.

أول لقاء بأبي أحمد جاء بعد كتابتي مقالة عن كليات المعلمين آنذاك، ومطالبتي بضمها للجامعات، لتتفرغ الوزارة بشؤون التعليم العام، وعلى رغم أن مقالتي كانت عنيفة كالعادة!، وأبو أحمد كان في أوج نشاطه وتألقه الوزاري، إلا أنه لم يلجأ إلى أسلوب «الطعن من الخلف» أو استئجار أقلام صحفية لتفنيد مقالتي، بل لجأ إلى أسلوب الحوار الراقي بين صاحبي وجهات نظر مختلفة، إذ التقيته في منزله بناء على طلبه، ودار حديث حول المقالة، ورغبته في الرد على ما كتبته، فرحبت به، وبالفعل رد على مقالتي، ثم رددت عليه بمقالة ثانية أشد عنفاً! أوضحت ما التبس عليه في رده، ومنذ ذلك اليوم، توطدت العلاقة بيننا، لكن بصفة أقرب ما تكون للرسمية، حتى ترك الوزارة، ثم تحولت العلاقة إلى «الأخوية»، جراء لقاءات عدة في منزل الأخ الأكبر والزميل الغالي الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، وما بينها من دعوات لمنزله العامر يشرفني بها دوماً، ولم أره قط عابساً أو متكبراً، ولا أدري لماذا كان يغمرني بتقدير واحترام وترحيب في كل مره ألقاه، واتضح أني لست الوحيد الذي يعطيه الاهتمام والترحيب في كل مرة يلقاه، فقال أحد المعزين لشقيقه الدكتور عبدالله الرشيد: خدعني أبو أحمد، يرحمه الله! فلما هدأ روع الدكتور عبدالله من هذا التعليق المؤلم في يوم عزاءٍ حزين جداً، سأل ذلك الرجل الكريم: ماذا تقصد؟ فقال: كنت أعتقد أن أبا أحمد يخصني بمفردي بمحبته وتقديره كلما لقيته، ولكني اليوم وجدت أن الجميع كان يحظى من أبي أحمد بالقدر نفسه من المحبة والاحترام.

أبو أحمد مناطقي!

قبل أن أكتب مقالتي التي تسببت في معرفتي به رحمه الله، وبحكم بعدي عن الوزارة، لم أقف عن قرب من أدائه، ومع ذلك فكنت معجباً بأدائه في جانب، يغيظني رؤيته في بعض المسؤولين، ذلكم هو مرض «المناطقية» البغيض الذي طغى على بعض الأجهزة الحكومية، إذ كان يدور في كثير من المجالس أن الوزير محمد الرشيد ركز «أهل المجمعة» في المناصب الكبيرة في الوزارة، وعلى رغم وضوح هذا الافتئات الظالم، إلا أنه لم يخل مجلس يدور الحديث فيه عن وزارة التربية والتعليم إبان رئاسته إلا وتأتي هذه التهمة الظالمة في حقه، ولو أتعب نفسه أي شخص سمع هذه التهمة فقط بقراءة أسماء «أركان حرب» الوزارة أثناء توليه دفتها، لعرف كذب هذه التهمة، ولكن مجتمعنا جاهز لنقل التهم من دون التدقيق فيها، فبدءاً من نائب الوزير الدكتور خضر القرشي وانتهاءً بمدير مكتبه الدكتور أحمد الدعجاني، ومروراً ببقية وكلاء الوزارة والوكلاء المساعدين وغيرهم، جميعهم بعيدون عن المجمعة الغالية، ولا تربطهم بأية صلة اجتماعية به، وبالتالي يحتار المتأمل لماذا طارت الركبان بهذه التهمة الظالمة؟ وتعرض لهذه التهمة شفهياً أثناء مشاركته بديوانية العم عثمان الصالح، رحمهما الله، فما كان منه إلا أن طلب من كبار مسؤولي الوزارة الحاضرين التعريف بأسمائهم ومناطقهم، فصمت المتهم!

لماذا؟

القضية التي شغلت المجالس هي: لماذا أعفي الدكتور محمد الأحمد الرشيد من منصبه، وهو في قمة عطائه ونشاطه؟ ولماذا كان الإعفاء فجأة والرجل في مهمة رسمية لحضور مؤتمر في دولة الكويت؟

لن أتحدث عن السؤال الأول، لأنه من اختصاص ولي الأمر، وهو أعلم بالسبب، أما السؤال الثاني فهو من الضرورة بمكان التطرق إليه علناً، لأنه حديث المجالس الغيورة على «صحة» الوطن، والسؤال الذي يطرح في هذا المقام: هل يعقل أن ولي الأمر هو الذي يحدد طريقة «توقيت وإخراج» قرار إعفاء صاحب المعالي؟ بكل تأكيد الإجابة بالنفي القاطع، والشواهد كثيرة، وأكبرها اهتمام المقام السامي الكبير بالوزراء المعفين، إذ يستمر التواصل معهم واستشارتهم، بل ويعرض على أكثرهم وظيفة سفير في دول مهمة، وبالتالي لو كان ولي الأمر «حاقداً» على هذا الوزير، بدلالة مفاجأة الإعفاء، لما عرض عليه وظيفة أخرى. وبالتالي ثانية، يظل السؤال قائم: لماذا هذا «التوقيت والإخراج» السيئ لقرار إعفاء بعض أصحاب المعالي، وأحياناً وهم في مهمات رسمية خارج المملكة؟

شخصياً، أعتقد أن العتب يقع على الإدارات التي تلي الملك، فهي المسؤولة عن إبلاغ قرار الملك، وبالتالي هي المسؤولة عن جانبي «التوقيت والإخراج» لصدور القرار. فمن المتعارف عليه أن مدير أعمال أو السكرتير الشخصي لأية شخصية كبيرة هو المسؤول عن ترتيب كثير من الأمور البيروقراطية والورقية، بعد أن يأخذ التوجيه من رئيسه، بمعنى آخر هو «المخرج» لقرارات هذا المسؤول، فإذا كان هذا المخرج محترفاً، خرجت القرارات بالصورة التي يرضى عنها الجميع، مبتعدةً عن أي جوانب شكلية سلبية، فكلمة «لا» يمكن أن تقال بطريقة سلبية منفرة أو بطريقة إيجابية جملية جداً.

ولكن للأسف، الواقع المعاصر يحكي الكثير من القصص المؤلمة عن الطريقة التي أعفي فيها بعض كبار المسؤولين، فشهدت شخصياً على موقف محرج جداً لأحد أصحاب المعالي بعد خروجنا من اجتماع رسمي، إذ كنت وهو متسمرين أمام التلفزيون، نسمع الأوامر الملكية، عندما تفاجأنا بإعلان قرار إعفائه على شاشة التلفزيون تجمد الرجل لثوانٍ عدة، وبعد أن أخذ «توازنه» اتصل بزوجته يخبرها عن إعفائه، والذهول واضح على وجهه.

لماذا هذه الطريقة المفاجئة بل سيئة الإخراج؟ ولماذا لا يكون صاحب المعالي هو أول من يعلم بقرار إعفائه بوقتٍ كاف؟ فصاحب المعالي هذا لم يقدم «ملفاً علاقياً أخضر» لشغل هذه الوظيفة كما هي الحال في الوظائف الأخرى؛ بل تم اختياره بعينه من مئات الآلاف من المواطنين، وبالتالي فمن حقه أن يكون أول من يعلم بقرار إعفائه، لا أن يسمعه من وسائل الإعلام وهو في رحلة رسمية خارج المملكة أو في اجتماع رسمي داخل المملكة، أو وهو يراجع معاملات الوزارة في مكتبه، فأضعف الإيمان أن يعطى فرصة لتنظيف مكتبه من أوراقه وحاجاته الخاصة، وهو «صاحب معالي»، لا أن يأتي لأخذ الإذن بدخول مكتبه لحمل أوراقه وحاجاته الخاصة، بعد أن كان هو الآمر الناهي في هذا الجهاز!

قصة أخرى حدثني عنها أحد الوزراء حين اتصل بوزير أعفي من منصبه للتو، بهدف التخفيف عنه، إذ كان الوزير المعفى خارج المملكة في مهمة رسمية! وفوجئ الوزير المتصل أن زميله كان يضحك ويمزح، فعرف أنه لم يعلم بعد عن إعفائه، فقال له: أحببت أسلم عليك! وبعد دقائق يتصل الوزير المعفى معاتباً زميله لماذا لم يخبره بالإعفاء حين اتصل به قبل دقائق؟ فقال لم أرد أن أكون ناقل خبر سيء!

والأخبار كثيرة في هذا الشأن، وهي حديث مجالس المحبين لهذا الوطن وقيادته، الخطورة في هذا الموضوع أن الشخص المعفى قد يصب جام غضبه على ولي الأمر، وهو برئ من طريقة «التوقيت والإخراج» براءة يوسف من دم الذئب، ولا أعتقد أن أحداً من هؤلاء الوزراء المعفين رفعوا خطاباً إلى الملك في شأن هذه الطريقة المؤلمة «لشكر» وزير قدم الكثير ثم يكافأ بجزاء سنمار من حيث «توقيت وإخراج» قرار الإعفاء!

وهذه الطريقة ليست حكراً على الوزراء ففي مجلس الشورى؛ إذ لا يتم إبلاغ العضو الذي لن يجدد له بعد أن خدم أربعة أو ثمانية أعوام، ولا يعرف عن عدم التجديد إلا عند إعلان أسماء أعضاء الدورة الجديدة للمجلس، في حين يتم إبلاغ زميله الذي سيعين للمرة الأولى، وكأن العضو المغادر «عامل يوميه»، لا يدري هل سيتم التعاقد معه ليوم ثانٍ إلا في نهاية اليوم! ففي الدورة الرابعة لمجلس الشورى لم تعلن أسماء أعضاء مجلس الشورى إلا مساء يوم 2-3-1426هـ، وهو آخر يوم لعضوية تلك الدورة، على رغم معرفة الأعضاء الجدد باختيارهم قبل شهرين تقريباً من ذلك التاريخ، كان العذر آنذاك في هذه «السرية» تخوف المسؤولين من عدم التزام الأعضاء المغادرين حضور جلسات المجلس لبقية الدورة، لذلك يتم تأخير إعلان التشكيل الجديد حتى آخر يوم من الدورة القائمة! تغيرت هذه الطريقة في الدورة الخامسة، إذ أعلنت أسماء أعضاء الدورة السادسة قبل شهرين من انتهاء الدورة الخامسة، ولم يتغيب أحد عن جلسات المجلس، ولكن للأسف عادت حال سوء «توقيت وإخراج» قرار التشكيل في الدورة السادسة.

مختصر القول أن السؤال يظل قائماً في شأن «خشونة» طريقة «توقيت وإخراج» قرار إعفاء بعض أصحاب المعالي، وكذلك كبار العسكريين من رتبة عميد فما فوق، ولا أجد تعبيراً أكثر ألماً وصدقاً ووطنية في وصف خطورة تداعيات هذه الحال سوى تغريدة صديق «تويتر» الأستاذ عبدالله المهيزع حين كتب: «المتتبع لكثير من الأحداث الأخيرة الداخلية، يوقن أن هناك من يستغل نفوذه لخلق حال من النفور بين الراعي والرعية»!

المصدر: صحيفة الحياة