بيان السطري
بيان السطري
كاتبة وإعلامية تعمل في (هتلان ميديا)

يوم بلا تكنولوجيا في العام 2050

آراء

المدينة الكبيرة تحولت إلى ممر كبير مظلم على جانبيه أبنية ومساكن تعلوها نوافذ مغلقة وشرفات رمادية تخبىء حكايات لا يعلم عنها أحد سوى من يقبعون خلف تلك النوافذ. الأحياء فارغة والأزقة لا يسمع فيها صوت ولا صدى، هدوء وسكون يخطف الحياة من هذه المدينة الشاحبة اللون.

لكن، أين مضى الجميع؟ أين أصوات الأطفال وأهازيجهم؟ هل مرت الأعاصير من هنا واقتلعت أسباب الحياة؟ أم أن هناك لغزا ما يتربص بأهل المدينة؟

كل ما في الأمر أن سكان هذه المدينة عقدوا العزم على تبني حياة تكنولوجية غيبتهم عن حياتهم الاجتماعية وأسرتهم أمام أجهزتهم الإلكترونية التي باتت كفسحة لا يمّل السفر إليها في جميع الأوقات.

هكذا أصبح العالم في العام 2050 بعد أن تحول إلى مدينة ذكية صغيرة وأصبح كل ركن فيها رقمي يعتمد لغة الصفر والواحد وأصبحت المعاملات تنجز من خلال هذه الشاشات الضوئية الصغيرة.

بعد سبات دام سبعة وثلاثين عاما، استفاقت المدينة الرقمية على خبر أرّق الكثيرين وأدخل البهجة على البعض وهو خبر انقطاع التكنولوجيا ليوم واحد عن المدينة والعالم بأسره لأسباب يجهلها الجميع وذلك برسالة نصية وصلت إلى هواتف وحواسيب الجميع ممن يقبعون ديارهم لأكثر من ثلاثة عقود. بعد خمس ثوان من وصول هذه الرسالة إلى جميع سكان المدينة، توقفت جميع وسائل الاتصال الرقمية عن العمل قبل أن يرتد طرف أعين الكثيرين. توقفت التكنولوجيا في المدينة الذكية وسقطت بذلك أوراق الخريف لتعلن خروج سكان المدينة من سبات شتائهم المضني ليوم واحد.

تثاءبت تلك المدينة النائمة وبدأت ثلوج الصمت والتكنولوجيا تذوب لتكشف عن التضاريس الحقيقية للمدينة. خلف النوافذ، وبعد انتشار الخبر، جلس سكان المدينة وكأن على رؤوسهم الطير في حالة من الدهشة والحيرة إثر هذا الأمر الذي لم يكن بالحسبان فبالأمس كانوا هناك في عوالمهم الرقمية واليوم صاروا هنا نزلاء في عوالمهم الحقيقية. أصوات الشكوى والتذمر باتت تعلو مسامع سكان هذه المدينة وناطحات سحابها، هذا هو المشهد في المدينة بعد انقطاع التكنولوجيا.

أفراد المنزل الواحد اجتمعوا للمرة الأولى منذ سبعة وثلاثين عاما وجها لوجه ليصبح هذا اللقاء أشبه بجلسة تعارف بين أفراد العائلة الواحدة، فالطفل أصبح شابا والشاب الأعزب تزوج والأبوان دخلا مرحلة الشيخوخة دون أن يعيش هؤلاء الأفراد تلك المراحل مع بعضهم البعض. فبعد أن تحول العالم إلى مدينة ذكية، أصبح أفراد العائلة يتواصلون فيما بينهم عبر الأجهزة اللوحية والذكية كلٌ من غرفته وكأن كلّ غرفة هي قارة تفصلها عن الأخرى حدود جغرافية اسمنتية تكونت بعد انزلاق ألواح التكنولوجيا الرقمية على طبقات الحياة البسيطة كما كانت عام 2013. التئم شمل العائلة وأخذ كل فرد يربت على كتف أخيه ويواسية وكأن كارثة طبيعية أو مصيبة ما ألمت بهم لتقربهم من بعضهم وتعيد المحبة إلى نفوسهم.

الموظفون تعطلت أعمالهم فجميع المعاملات تجري عبر الإنترنت رقميا. كذلك كان حال الطلاب في المدراس والجامعات؛ فدروسهم ومحاضراتهم تجري في صفوف التعليم عن بعد الرقمية. إذن، بتعطل التكنولوجيا، حصل الجميع على إجازة رسمية لم يعهدها سكان المدينة منذ أكثر من ثلاثين عاما بعد أن حقنت التكنولوجيا دماءهم فباتوا مدمنين على استخدامها.

خرج جميع الناس من بيوتهم إلى الشوارع، تلك التي هجرت منذ غزو التكنولوجيا الذكية، فأخذ الناس يصافحون بعضهم البعض ويتعرفون على ذويهم وأصدقائهم من جديد وكأنهم عائدون من السفر. ولكن هم بالفعل كانوا مهاجرين إلى عوالم حراسها أزرار إلكترونية وشحنات كهربائية. عادوا إلى أرض المدينة وعادت الحياة إليها فأمست أحياؤها وزواياها تغرد فرحا وأنسا بعودتهم.

المطاعم والمقاهي التي هجرت قصدها زوارها كي يرمموا ما أحدثوه من قطيعة إلا أن أبوابها كانت مغلقة، فمصدر الرزق هذا توقف بعد الطفرة التكنولوجية التي ألمت بالمدينة. أما الملاعب الرياضية، فاخضرت بعودة محبيها ولاعبيها لها ممن اعتزلوا الرياضة منذ عقود وأقعدتهم التكنولوجيا أشبه بالمرضى في أسرتهم.

لم يرصد أي أثر للتكنولوجيا في ذلك اليوم وأصبحت المدينة الذكية المعقدة بسيطة فسكانها بسطاء بفطرتهم في غياب المنغصات. أخذ الأفراد يزورون بعضهم بعضا ويصلون أرحامهم. الكتب عادت لتتألق وسط غياب الكتب الرقمية وأخذت رائحتها تفوح حول قرائها ليستعيدوا متعة القراءة الورقية. المكتبات، ألفت الوحدة ورفوفها المكتظة بالكتب لم تؤنس وحشتها لتتحول تلك الرفوف إلى مساكن للعناكب تحيك بيوتها عليها وتجاور بها قصص أهالي هذه المدينة حتى فاجأها روادها القدماء بزيارة أدخلت البهجة على نفوس المراجع والمجلدات المهملة.

عادت الحياة إلى طبيعتها… الأم دخلت المطبخ وبدأت تطهو بعد أن اختفى هذا المظهر من جميع البيوت بعد ثورة التكنولوجيا فالطعام أصبح أيضا إلكترونيا يحقن كجرعات في الدم تصل بالسيالات العصبية إلى الدماغ الذي يتعرف بعد ذلك على نوع الطعام الإلكتروني ويشعر بطعمه. كان الغبار يغطي جميع أدوات الطبخ فهي لم تستخدم منذ زمن وبتعطل الإنسان الآلي المسؤول عن شؤون المنزل، أخذت العائلة تخدم نفسها بنفسها. اجتمعت العائلة على طاولة واحدة لتتناول الطعام سويا وتتبادل أطراف الحديث كما كانت في السابق عام 2013.

وجد بعض الأشخاص أن الحياة في هذا اليوم من دون تكنولوجيا هي أفضل وأكثر راحة إلا أن البعض قد تذمر من ذلك اليوم الرتيب وبالأخص من وُلد بعد أن تحول العالم إلى مدينة ذكية فهؤلاء تربوا ونشأوا علي التكنولوجيا وأصبح الابتعاد عنها بالأمر المستحيل وغير القابل للتطبيق.

هذا يوم من حياة أناس نزلت التكنولوجيا فيها ضيفا على حياتهم بإقامة غير منتهية الصلاحية فلا أحد يدري إن كانت الحياة ستعود كما كانت عليه في السابق أم أنها ستمضي في ركب التطور والتكنولوجيا الذكية!