عبدالوهاب بدرخان
عبدالوهاب بدرخان
كاتب ومحلل سياسي- لندن

اللعبة أكبر من حلم إيران: حكم الأقلية المذهبية سورياً وإقليمياً

آراء

مــــن الواضــح أن الإيـــرانيــين وأعوانهم في «حزب الله» أثاروا حساسية النظام السوري باحتلالهم صدارة الواجهة الإعلامية أخيراً لتقديم النتائج المستخلصة من «الانتصارات العسكرية» التي حققوها في معركةٍ هي أولاً وأخيراً ضد سورية وشعبها. أما وصفها بأنها حرب على «الإرهابيين» و»التكفيريين» فعدا أنه دعائي لتبرير التدخل الخارجي، يريد أيضاً وضع إيران في مصاف دول كبرى يمكن الاعتماد عليها في مهمات «أخلاقية» أو لها صلة بالسلم العالمي. وتكاد حجج حسن نصرالله، ومن بعده نائبه نعيم قاسم، تشابه الى حد بعيد ما سبقهما اليه عدد من مسؤولي الإدارة الأميركية السابقة في تبرير حربها على الإرهاب.

لاحظ الإيرانيون أن اعلام دمشق نسب الى النظام السوري ما تحقق ميدانياً في الشهور الأخيرة، لذا تولّى الإعلام الموالي لهم تسليط الضوء على انجازاتهم. صحيح أنهم قاموا بإنقاذ النظام، ولا ينكرون ذلك، لكن الصحيح أيضاً أنهم بذلوا ما بذلوه لمراكمة الأوراق في أيديهم للمساومة مع الولايات المتحدة ودول الغرب عموماً. ومن يقود المعركة العسكرية بعدما بلغ ضعف نظام بشار الأسد حدّاً هدّد مصالحهم في سورية، لا بدّ أن يتطلّع الى قيادة المعركة السياسية للأسباب ذاتها. وهو ما بدأه الإيرانيون فعلاً، مستغلّين موت «جنيف 2» والانشغال الأميركي – الروسي في اوكرانيا، ومعتمدين على حليفهم وصنيعتهم «حزب الله» في الجانب الدعائي وعلى مبعوثيهم لبث الأفكار السياسية عبر قنوات بعضها سرّي.

ولا عزاء اذاً لبثينة شعبان وعمران الزعبي وفيصل المقداد وبقية أفراد الزمرة إذ أظهرتهم طهران غير مؤهلين، بل غير معنيين، بإدارة بروباغندا الأزمة ما بعد حرب القلمون. يمكنهم فقط نقل ما يقوله الأسد لزائريه وبصيغ مدروسة تتماشى مع السياق الإيراني. فما كادت مستشارة الرئيس تنفي استياءً نُقل عنها من «محطات صديقة بثت مقابلات وتقارير توحي نوعاً ما بأن سورية ودولتها لم تكونا لتصمدا لولا دعم فلان وفلان من الدول والأحزاب» حتى هاجمها اعلام إيران – «حزب الله» في بيروت بسبب اجراءات تضييق اتخذتها دمشق ضدّه. لكن قائد القوة الجوية في «الحرس الثوري» الإيراني علي حاجي زاده ذهب مباشرة الى صلب الموضوع، اذ قال ان «بقاء الرئيس السوري في السلطة وعدم سقوط نظامه يعود في جزء كبير منه الى رغبة إيران في استمراره»، معتبراً أن 86 دولةً أرادت اسقاطه «لكن إيران لم تقبل ذلك، فأفشلته». وفيما استعاد بعض الأبواق التذكير بأن الأسد «يستمدّ شرعيته من الشعب السوري وصمود الجيش» اعتبرت المستشارة شعبان ما تقوله «المحطات الصديقة» بأنه «أمر مرفوض، فسورية صمدت بشعبها الذي قدّم الى الآن أكثر من ربع مليون شهيد». أي أنها احتسبت من يقتلهم النظام شهداء يسقطون أيضاً من أجل بقائه.

كانت المرّة الأخيرة التي تحدث فيها الأسد شخصياً عن ترشّحه في الانتخابات الرئاسية عشية افتتاح مؤتمر «جنيف 2» (حديث الى «فرانس برس») وتبعه كالعادة تعليق من وزير الإعلام. بعد ذلك توالت التقارير من دمشق عن بدء «الشبيحة» حملات في مناطق سيطرة النظام لإفهام الناس بوجوب ابداء التأييد بل مناشدة الأسد الترشّح. وفي منتصف آذار (مارس) لفت الأخضر الإبراهيمي مجلس الأمن الى خطورة هذا التوجه لدى الأسد لأنه ينسف أي سعي الى حل سياسي من خلال مفاوضات جنيف، لكن الجميع بات يعلم الآن أن النظام والإيرانيين سعوا بالتأكيد الى قتل هذه المفاوضات لأنها مبنية على أساسٍ (هيئة الحكم الانتقالي) يقود عملياً الى تفاوض على صيغة شراكة للحفاظ على الدولة والمؤسسات مع تصفية منظّمة للنظام بشكله الحالي.

لكن الملاحظ أن الأطراف الإيرانية رفعت الصوت أخيراً مزكّيةً ترشيح الأسد كما لو أنه هو الآخر، من قبيل تحصيل الحاصل، قرار إيراني. ومما قاله نعيم قاسم (رويترز) أن الأسد سيفوز «لأن له رصيداً شعبياً مهماً من كل الطوائف وعلى رأسها الطائفة السنّية» وأن هناك خيارين: الأول، بقاء الأسد باتفاق مع الأطراف الأخرى (لا يقصد الشعب السوري) و»يتم التفاهم معه للوصول الى نتيجة»، والآخر «استحالة أن تكون المعارضة هي البديل أو أن تحكم سورية». وبذلك تكون الترجمة الفارسية لأفكار الأسد أكثر ايجازاً ووضوحاً من الرطانة البعثية. حتى الأسد «المنتصر» نفسه لم يتح له الشعور بمقدار من النشوة يسوّغ له صوغ املاءاته بهذه الطريقة. وإذا كان نصرالله توقّع «حرب استنزاف» ما لم يتبلور حل في ضوء ميزان القوى العسكرية، فإن نائبه قاسم يتوقّع إبقاء الأزمة مفتوحة مع «غلبة» للأسد في «ادارة البلاد». هل قال «إدارة البلاد»؟ نعم، لكن كيف؟ لا يأبه قاسم بـ «الاستنزاف» طالما أنه لسورية وشعبها بكل انتماءاته، والأهم أنه يديم حال الحرب التي يعتاش عليها «حزب الله» وتستخدمها إيران للابتزاز الإقليمي. وهكذا، أصبح ترشيح الأسد قضيةً حيويةً للإيرانيين بمقدار ما هو هدفٌ معلنٌ للأسد نفسه بل أكثر. يريدونه شاهد اثبات على نفوذهم.

أما «الغلبة» فلا تعني اطلاقاً «ادارة البلاد». فهذا «رئيس» فشل في وقف العنف وإيجاد حل سياسي، ولم ينجح إلا في تشغيل آلة القتل وقيادة اقتلاع السكان، ولا يستطيع كمرشح سوى أن يعد بالمزيد من الشيء نفسه، فمن يسعى الى ابادة غالبية الشعب لا يمكن التعويل عليه لطمأنة الأقليات. لم يعد مفتاح الأمن والأمان في يده ولا في أيدي الحلفاء الذين يماثلونه. هذا «رئيس» فشل في وقف «أسوأ كارثة انسانية مرّت وتمرّ بها سورية عبر التاريخ» وفقاً لتوصيف «مشروع الأجندة الوطنية لمستقبل سورية» – أطلقته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية (الإسكوا) – الذي يقدّر أن سورية خسرت سبعة وثلاثين عاماً من التنمية» وستحتاج الى عشرات السنين لتعويضها «لأن الاستثمارات الكبيرة ستتأخّر في العودة الى السوق السورية في الفترة الأولى بعد انتهاء الصراع»، مع افتراض انتهائه عبر «حل سياسي» متوَافَق عليه. ولعل الأكثر ايلاماً في هذا المشروع اشارته الى أن «البلد الذي زرع القمح قبل 12 ألف عام يعجز ربع سكانه اليوم عن تأمين رغيف الخبز»… لكن هل يكترث الأسد لهذه التفاصيل المريعة حين يقول إن شيئاً لا يمنعه من ترشيح نفسه. هذا «رئيس» معني بالخراب لا بالإعمار، مثله مثل حلفائه في طهران وبيروت وبغداد وموسكو، ومثل مريديه في اسرائيل (قدّم اليها أكبر الخدمات سورياً وفلسطينياً) و»اللوبي اليهودي» الأميركي الذي سأل أحد وجوهه في حديث تلفزيوني أخيراً «ماذا تريد منا المعارضة بعدما تمكّن الأسد من هزمها»؟

نعم هناك قبول في الغرب للأمر الواقع، ويتساوى في ذلك أن القبول على مضض أم لا. فهذا ما يشي به اختلاف المقاربات بين البيت الأبيض والخارجية والبنتاغون، وهذا ما تعترف به الخارجية الفرنسية مواربةً. لكن تبقى مسافة شاسعة بين الظروف الحقيقية لبلورة حل في سورية وبين التمنيات العاجلة لإيران. وإذ تعلن الأخيرة إنها وضعت معالم الحل وشروطه، فما حاجتها الى «الأطراف الأخرى» لإنهاء الأزمة. الأكيد أنها تعرف مسبقاً أن هذه الأزمة أكبر منها، إلا أنها تناور في الوقت الضائع. فكل الحلول التي اقترحتها تفتقد أمرين أساسيين: التوازن، والاعتراف بالحقائق. كما أنها تتجاهل أن حكم الأقلية المذهبية والغلبة العسكرية كانا متوافرين للنظام في سورية ولم يمنعا نشوب الأزمة وتفجّرها… أما حكم الأقلية المذهبية للإقليم فسيبقى، رغم العربدة العسكرية، مجرّد حلم فارسي. وقد أثبتت وقائع كثيرة، حتى داخل إيران نفسها، أن الأمر الواقع مهما طال لا يلغي الواقع.

المصدر: الحياة