رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

«الرئاسيات» ومتغيرات المنطقة

آراء

هناك ثلاث رئاسات عربية، بل خمس، معرضة للتغيير خلال الشهرين القادمين: رئاسة وزراء العراق، رئاسة الجمهورية في سوريا، رئاسة الجمهورية في لبنان، رئاسة الجمهورية في الجزائر، رئاسة الجمهورية في مصر. لكني لن أبدأ بالرئاسات المأزومة، والتي تفتح على تأزُّم أكبر؛ بل أود الافتتاح بالتغيير المنتظر للأخضر الإبراهيمي المبعوث العربي والدولي المكلف بالأزمة في سوريا. إذ يبدو أن هناك توافقاً بين أعضاء مجلس الأمن على الاستبدال بالإبراهيمي أحداً آخر. ولو تأملنا المشهد قليلا لوجدنا أن الروس والأميركيين كانوا متفقين على تعيينه عام 2012، وأن العرب- وبخاصة السعوديين والقطريين- إنما قبلوه على مضض. وقد اشتهر عن الإبراهيمي بشأن نهجه في الوساطة أمران: أن أطراف النزاع ينبغي أن تُصاب جميعاً بالإنهاك الشديد بحيث لا يستطيع أحدها رفض الخطة المطروحة للحل، وأن الخطة ينبغي أن تخاطب سائر الأطراف، أي أن تكون لها مصلحة أو مصالح ما في القبول. ولا ندري كيف يتأمل الإبراهيمي بعد سنتين ونصف السنة ما قام به، وهل يعتبره نجاحاً أو نصف نجاح، بغض النظر عن النتائج، أم أنه يعتبره فَشَلا بالنظر إلى النتيجة، بمعنى أن الأزمة السورية التي توسط فيها ازدادت عمقاً وتفجراً بعد أكثر من ثلاث سنوات على اندلاعها! وقد اشتهر كوفي عنان المبعوث الأول بالنقاط الأربع أو الست التي طرحها، بينما اشتهر الإبراهيمي بالاعتقاد بأنّ الروس والإيرانيين هم الذين يستطيعون حل الأزمة السورية. وقد زارهم الرجل مراراً وتكراراً دونما جدوى. وفي كل زيارة أو حديث كان يزيد من غضب السعوديين عليه. لكنه عندما يذهب الآن والأزمة تزداد اشتعالا سيكون هناك أمران يُذكران عن مهمته في المستقبل، أولهما أنه استطاع جمع الروس والأميركيين من حول طاولة جنيف1 وخطتها، وأنه عندما ذهب الجميع بعد أكثر من عام من القتال إلى جنيف2، فإنّ الروس والإيرانيين الذين تأمل فيهم كثيراً كانوا هم الذين خذلوه، لأملهم بالقدرة على الانتصار مع بشار الأسد على سائر الخصوم. وهكذا كانت جنيف1 انتصاراً له، وكانت جنيف 2 هزيمة له. وقد سمعتُ دبلوماسياً بريطانياً يقول إنه لو كان مكان الإبراهيمي لاستقال بعد جنيف 2! وكانت قد شاعت أخبارٌ قبل شهر أن الإبراهيمي وسط أطرافاً من أجل زيارة السعودية. وعلى أي حال فإن فشل الإبراهيمي في حل الأزمة هو فشل للعرب والأميركيين بالدرجة الأولى، لأنهم ما استطاعوا دفع الروس والإيرانيين للقبول بحل سياسي للأزمة: روسيا لأنها في «مزاج» انتصار على أميركا، والإيرانيون لأنهم في «مود» انتصار على العرب!

ولنعد من رئاسة الإبراهيمي إلى الرئاسيات الإيرانية الأخرى. فالإيرانيون يراهنون على المالكي والأسد، باعتبارهما عضوين في محور الممانعة والتصدي الذي أعلنوه من طهران عام 2008. وقد ساعد الإيرانيون المالكي والأسد كثيراً حتى قيام الثورات عام 2011. ففي عام 2010/2009 –ورغم عدم نجاح المالكي في الانتخابات، تفاوض الإيرانيون (الجنرال قاسم سليماني) مع جيفري فيلتمان عبر شهور طويلة على مشارف الانسحاب الأميركي من العراق. وكانت الترتيبات التي جرى الاتفاق عليها ما يلي: يبقى المالكي رئيساً للوزراء بالعراق، ويعود السفير الأميركي إلى سوريا، ويُغضُ الطرْفُ عن تصرفات الحزب والنظام السوري بلبنان؛ مقابل: عدم التحرش الإيراني بالأميركيين أثناء انسحابهم، وعدم تحرش «حزب الله» بإسرائيل. وتعقُّل الإيرانيين في الملف النووي. فماذا حصل لهذا التوافق بعد ثلاث سنوات ونيف؟ خلال السنوات الماضية ساد المالكي في العراق، والأسد في سوريا، وعمل «حزب الله» (بمعاونة جنبلاط وفيلتمان وتركيا وقطر) على تنحية سعد الحريري والمجيء بميقاتي صديق الأسد على رأس حكومة بقيت ثلاث سنوات. ويقال إنه حتى الإبراهيمي ليس بعيداً عن هذه الأجواء، وكذلك سياسات الولايات المتحدة تجاه الملف السوري حتى أزمة أوكرانيا. فالمعروف أنّ الأميركيين والإيرانيين دخلوا في المرحلة الأولى من اتفاق حول النووي ضمن المباحثات التي لم تنقطع أيام نجاد وسرعها انتخاب روحاني.

والملاحظ أن أطراف «التوافق» الأميركي الإيراني بدؤوا يتوارون، دون أن يعني ذلك بالضرورة ذهاب التوافق نفسه: فروبرت فورد، السفير الأميركي الشهير بسوريا، تقاعد، وفاينشتاين الذي حل محله بدأ عهده بإقفال السفارة السورية في واشنطن. وحكومة ميقاتي سقطت. والإسرائيليون الذين طالما مدحوا الأسد بدؤوا يشكون منه، ويشكون من مخالفة «حزب الله» للاتفاقات. إنما الأهم من ذلك كله أن رجلي إيران في العراق وسوريا يقعان في قلب عاصفة هائلة: الأسد بسبب ثورة شعبه عليه وقتله مئات الألوف، وتهجيره الملايين، والمالكي بسبب شنِّه حروباً على السنة والأكراد، وانقسام الأطراف الشيعية عليه. وليس من الواضح سبب إصرار الإيرانيين على خوض الحروب الأهلية في العراق وسوريا، وهم يعرفون أنه لا يمكن لهم الاستمرار في الغلبة بهذه الطريقة. وإذا سلمنا بأنهم لا يملكون بديلا للأسد في سوريا، فلماذا هذا التمسك بالمالكي في العراق؟ فلأول مرة يفقد المالكي السيطرة على غرب العراق، أي على الحدود مع سوريا والأردن، وقسم من الحدود مع السعودية. ثم إن القبائل و«الإرهابيين» صاروا على مشارف بغداد. وهم يحجبون المياه عن ناحية، ويغرقون بالمياه نواحي أخرى. وإذا لم يكتسح المالكي الأصوات الشيعية كلها -وهذا غير مرجح- فهو لن يستطيع تشكيل حكومة بعد الانتخابات إلا إذا أرغم سليماني «الحكيم» و«الصدر» والأطراف الشيعية الصغرى على دعمه، وهددهم كالعادة بالمليشيات الخاضعة له، وبالاغتيالات. ثم كيف يستطيع سنة كُثرٌ الذهاب إلى صناديق الاقتراع ومدنهم محاصرة وعندهم تهجير كبير، و«الإرهابيون» المسيطرون في الفلوجة لا يؤمنون بالديمقراطية؟!

ولندع العراق إلى سوريا، حيث الوضع أسوأ. فلو فرضنا أن العشرة ملايين سوري الذين غادروا مساكنهم بالداخل والخارج، بينهم خمسة ملايين مقترع؛ فهذا يعني أن ثلث الناخبين السوريين لا يستطيعون المشاركة حتى لو أرادوا. ولأن الانتخابات ستبدو عبثاً ومسخرة؛ فإن الإيرانيين والروس يشيرون على الأسد أن يمدد له «مجلس الشعب» بسبب الظروف الاستثنائية. وخلال الأسبوعين الماضيين تنافس «حزب الله» والأسد في إعلان الانتصار. ولأن حسن نصر الله بالغ، فقد انزعج الأسد وأنصاره وقالوا إن «الأصدقاء» يكذبون، لأن الذي انتصر الجيش السوري والشعب الذي سقط منه ربع مليون قتيل! وبذلك يكون الذين قُتلوا بالكيماوي والبراميل المتفجرة ماتوا أيضاً من أجل نُصرة الأسد!

وبالطبع لا علاقة للانتخابات المصرية بما يجري في البلدان الأخرى. أما الانتخابات الجزائرية أو السودانية فهي جزء من الظاهرة نفسِها: بقايا العسكريين والأمنيين العرب الذين تحاول إيران الحفاظ عليهم في مواجهة حركات التغيير الشعبية.

أما الانتخابات الرئاسية اللبنانية، فإن إيران ترتهنها لكي ترى كيف يمكن تحقيق مصالحها وحصاد استثماراتها في سوريا. محور الممانعة كلُّه مأزوم، بما في ذلك بؤرته في طهران. فهناك أمور في الجيواستراتيجيا لا يحلها القتل والإبادات. وقد انقضى عهد فيلتمان، وما أدراك ما عهد فيلتمان:

وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ فمن العجز أن تموتَ جبانا

المصدر: الاتحاد