د. عبد الحميد الأنصاري
د. عبد الحميد الأنصاري
كاتب قطري متخصص في حقوق الإنسان والحوار الحضاري والفكر السياسي

في تحجيم فكر التشدد الديني

آراء

كان من التداعيات السلبية لـ«ربيع» العرب انتعاش وتصاعد موجات التشدد الديني في المجتمعات التي شهدت ثورات أو انتفاضات ذلك الربيع، وهي وإن اختلفت في حجمها وشدتها وتأثيرها ومظاهرها، تبعاً لاختلاف المجتمعات العربية من حيث درجة التحصين والمقاومة، إلا أن ما يجمع موجات التشدد الديني تلك على اختلاف أطيافها ومسمياتها، استنادها إلى فكر واحد، هو فكر الغلو والتشدد والإقصاء والكراهية للآخر. وقد تحول هذا الفكر في ظل غياب سلطة الدولة وضعف الأجهزة الأمنية، إلى سلوكيات عدوانية، وفتاوى تشدد على الناس في سلوكياتهم وتصرفاتهم، وتتوعدهم بالعذاب والتأثيم الشديد، وقد تصل إلى التفسيق والتكفير والتخوين. وقد تم توظيف منابر بيوت الله تعالى وفضائيات دينية ومواقع إلكترونية في تغذية الكراهية ضد الآخر المختلف، مذهباً أو ديناً، حتى أن الأقليات الدينية باتت في قلق وارتياع على مستقبل أبنائها، وكثير من أفرادها وعناصرها هاجروا من البلاد العربية.

التشدد الديني مبناه الغلو في المعتقد وفرض الرأي وإساءة الظن والتوسع في التحريم وتضييق دائرة المباحات في تناقض بيّن مع منهج الإسلام القائم على التيسير ورفع الحرج وعدم التعسير والمعاملة بالحسنى والدعوة بالحكمة (وقولوا للناس حسناً).
نصوص القرآن الكريم وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله تعالى عليهم، كلها مع التيسير والمرونة، والنهي عن الغلو سواء في المعتقد بتكفير الآخرين أو في المعاملات بالتوسع في التحريم أو الغلو في العبادات بتفسيق الآخرين، وذلك لاعتبارات عديدة:

1- كون النصوص التشريعية محدودة والمستجدات الحياتية غير محدودة والمسكوت عنه من الأحكام أكثر بكثير من المنصوص عليه.

2- كون معظم النصوص ظنية الدلالة، قابلة لتعدد الآراء وحمالة لأوجه من التفسير والفهم في ضوء السياقات الزمانية والمكانية، وهذا سر تعددية المذاهب الفقهية.

3- كون الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان والمقصود الأصول والثوابت.

4- كون الرسول صلى الله عليه وسلم جاء لرفع القيود والأغلال عن الأمة، لإسراف من قبلنا في التشدد.

كل هذه الاعتبارات تحتم المرونة والتيسير وإلا وقعت الأمة في حرج شديد ووقع الفرد المسلم في تأزم نفسي بين تكاليف دينه ومتطلبات حياته. ثم إن التشدد مخالف للفطرة الإنسانية ومناقض لقاعدة أساسية في الإسلام، هي أن «الأصل في الأشياء والأفعال والتصرفات، الإباحة»، بينما التشدد ينطلق من قاعدة «الأصل في الأشياء الحظر والحُرمة».

والملاحظ في أمر التشدد:

1- أن التشدد آفة عرفتها مجتمعاتنا قديماً في الخوارج وحديثاً في الجماعات المتشددة، غير أن تأثير التشدد قديماً كان محدوداً، وكان على هامش المجتمعات بعكس اليوم في انتشار موجات المتشددين الشباب.

2- إن التشدد لو كان مقصوراً على الثوابت الدينية وقضايا المجتمع الرئيسية: الحرية، العدالة، الشورى، المساواة.. لكان محموداً، أما التشدد في الفرعيات والخلافيات مثل: النقاب، واللحية، والغناء، والاختلاط، والسلام على أهل الكتاب، والتصويت في الانتخابات، وما يتعلق بوضعية المرأة في المجتمع.. فهذا أمر غير مقبول بل فيه هدر لطاقات المجتمع فيما لا طائل من ورائه بدلا من توجيهها للبناء والتنمية وتماسك الجبهة الداخلية.

3- إن التشدد لو كان مقصوراً على الشخص نفسه أو الجماعة نفسها دون تجاوز إلى فرضه على الآخرين، لما كان الأمر مثاراً للاعتراض، حملا على باب «الورع»، لكن هؤلاء يستخدمون سلطتهم لفرض آرائهم على المخالفين لهم، بل يتجاوزون إلى التشكيك في المعتقدات والتفتيش في الضمائر، وهذا خروج عن المنهج الحق.

4- إن مقولات المتشددين تناقض سلوكياتهم لجهة الغلظة والصلافة والتجهم في تعاملهم مع الآخرين، كذلك تجدهم في مواطن الإنتاج والعمل وحقوق الناس متساهلين مفرِّطين.

وللتشدد أسباب منها:

1- العاطفة الدينية الطاغية مع الوعي المحدود والثقافة الضحلة.

2- البروز الاجتماعي وطلب الشهرة والزعامة.

3- عدم كفاية «التحصين الديني» في البيت والمدرسة والجامع والمجتمع.

4- وجود الفراغ السياسي والثقافي والاجتماعي في أوساط الشباب نتيجة عدم تفعيل ثقافة الحوار وتوجيه الشباب للانشغال بقضايا البناء والتنمية، إذ لا يوجد مشروع وطني جامع ينشغل به الشباب ويوظف فيه طاقاته.

5- قصور إسهامات الكفاءات العلمية والفكرية في حل مشكلات الساحة العريضة.

6- ضعف الحصيلة العلمية والثقافية والدينية لبعض الدعاة والخطباء، فلا تسمع منهم إلا حديثاً مكرراً بعيداً عن قضايا المجتمع.

7- أمراض نفسية مع إفرازات تنشئة محبطة لبيوت مفككة اجتماعياً.

8- تعصب الحركات المتشددة لمذاهب معينة أو لأئمة معينين يأتمرون بهم ويتعصبون لآرائهم.

كيف تحجم التشدد؟

مواجهة التشدد الديني تتطلب استراتيجية وطنية من عناصرها:

1- إبعاد المتشددين عن مراكز القيادة والتوجيه ومنابر التربية والتعليم والإعلام.

2- تفعيل دور العلماء وأهل الفكر في التصدي لمقولات المتشددين وتفكيكها عبر الحوار والتناصح والإقناع.

3- زيادة الجرعة الدينية والثقافية الخاصة بالتحصين الديني والثقافي للشباب بتشجيع الحوار الحر وإشاعة روح العقلانية ومنهج النقد.

4- تبني خطة استراتيجية للتنمية الثقافية والدينية، تساهم فيها كافة الجهات المسؤولة عن توجيه الشباب.

المصدر: الاتحاد