نجيب الزامل
نجيب الزامل
كاتب سعودي

د. الربيعة: السمعة العلمية المشمسة.. أبقى

آراء

.. العاملون المتخصصون في كلاسيكيات الفكر الفرنسي، يعرفون الكاتب المعرفي “جورج دُوهامل” Georges Duhamel. في كتاب له خرج في العام 1950م بعنوان “عقدة ثيوبيل” Le complex de Theopile هلل له مفكرو الفرانكوفونية. قال له صحافي: “حدثنا عن اعتزازك بكتابك، ومهنتك الأدبية”، وهنا تغيرت ملامح “دوهامل” وغضب قائلا بما يشبه المرافعة أمام محكمة: “في يوم سيكتبه القدر، سأقف أمام المحاسبة الأخيرة وسُئِلتُ عن مهنتي، فلن يكون للأدب أي اعتبار، وسأجيبُ اعتزازا والتماسا للعفو الإلهي: “كنت طبيبا!”

وفي مقال من عدة سنوات، وكنا كأمة مشغولين بترويج سمعتنا في الخارج عن طريق المعارض، كتبت: “لو استأجرنا صفحاتٍ في أكبر صحف العالم ووضعنا عليها أسماء علمائنا الكبار لكان أفضل ترويجا وأقل تكلفة من المعارض..” وأعطيتُ مثالا بأنه لو أن كل قارئ لـ “الجارديان” والـ “نيويورك تايمز” و”الفيجارو” و”ساهي” و”الإنديا نيوز”، وغيرهم شاهد صورة الطبيب العالم الفريد في فصل التوائم السيامية الدكتور عبد الله الربيعة، لكان هذا واحدا من أفضل ما نقدمه مثبتا ومشهودا لمصلحة الأمة السعودية.

وحين اختير الربيعة وزيرا تمنيت عليه لو بقي في مكانه الحصين، في سلطنته الخاصة، في تخومه التي لا يقتحمها أحد، حيث كان الأعلم والمرجع بقدراته الجراحية المهارية، وأن الله لم يمنحه تلك الأصابع الموهوبة عبثا، ويعلم كل طالب جراحة أن الجراح الفنان الموهوب حتى لو قلت درجاته التحصيلية يكون أشد مهارة وبيده المبضع والمشرط.

هل جنى الدكتور الربيعة على نفسه، وهذا انعكس على الأداء الإداري الذي ليس مجاله؟ أظن، نعم. واندهشت أن يترك الجراح البارعُ مكانه الذي صار فيه أسطورة حية، إلى شعاع الوزارة الباهت جدا مقارنة بسمعته المجلية المشمسة في العالم الطبي، وغير الطبي. هل الدكتور لم يكن راغبا في الأصل ولكنه انصاع لرغبة ولي الأمر؟ قد يكون. وإن كنت أظن لو تم الاعتذار لولي الأمر لقبل المعاذير، لأن وليَّ الأمر المسؤول الأول ولن يقبل شخصا في وظيفةٍ أبدى بصراحة أنه لا يصلح لها، ولا تصلح له.

وأنا مرة أخرى أتمنى ليس فقط على كل متخصص علمي ألا يترك ما هو سيد فيه، إلى مكان يتسيد عليه في الضعيف والقوي، خصوصا في إداراتنا العامة، حيث تغيب الإدارة العلمية الصرفة، ويكون الإداري دوما بين مطرقة العمل وسندان الرأي العام الملتهب. والإدارة علم قائم ونابه بذاته، وقام عليه مفكرون كبار منذ آدم سميث وخرجوا بعشرات المدارس والنظريات الإدارية خصوصا في أمريكا وإنجلترا. إن علم الإدارة ساهم في تطور الصناعات الربحية، حيث يزيد الإنتاج من جهة وتقل التكاليف من جهة، ثم تأخذ البحوث والتطوير قطعة وافرة من فطيرة الأرباح من أجل التطوير، وكلنا يعلم الثورة في صناعة السيارات لما فطن هنري فورد مع كبار إدارييه إلى الحزام الإنتاجي التجميعي، فخرجت صناعة السيارات الكبيرة العدد، ورخصت قيَمَها، وصارت في متناول أصحاب القدرة المالية المتوسطة. الإدارة تخصص، وبالتالي عندما يبرع طبيب أو مهندس في مهنته، فهذا لا يعني أنه سيكون بالنجاح ذاته في إدارةٍ عامة، بل سيخرج من أرضٍ يقف عليها ثابتا ويعرف مداراتها وتضاريسها واتجاهاتها ليدخل أرضَ المتاهة حيث يغيب الاتجاه، بل تضيع البوصلة.

إن هذه الأمة يجب أن تلتفت وتؤمن أن الإدارة علم متخصص، وتعمل على ذلك.

وإلا، إن أخرجناهم من تخصصاتهم العلمية وكنا من الكاسبين، ونقلناهم لإدارات عامة، فلن يستمر الكسب في التخصص، ولن يتم الكسب أيضا في الإدارة.

فنخسر أكثر من مرة!

المصدر: الإقتصادية