المسماري (5): رأى المعتصم الثورة في مصر فقال: هذه نهاية الديكتاتوريات

مقابلات

كاد نوري المسماري يقع في الفخ الذي نُصب له. لم يُطق معمّر القذافي فكرة وجوده بعيداً في باريس ومعه سنوات من الأسرار والمشاهدات. تدخّل لدى العائلة لإقناعه بالعودة. أرسل فريقاً لاغتياله. ثم أرسل نجله المعتصم لاصطحابه وإعادته. صدّقت العائلة، أو بعض أفرادها، تطمينات القائد وسلك المسماري طريق المطار لارتكاب رحلة العودة. أنقذَتْهُ نصيحة جاءت في اللحظة الأخيرة وعاد إلى باريس.

لا يغفر القذافي لمن يقفز من السفينة ويبتعد. لهذا كان المسماري مرشحاً لمواجهة مصير مشابه لما حلّ بعمر المحيشي يوم نجح العقيد في استعادته من المغرب وقتله. كان إسكات المسماري مهماً للقائد، ذلك أن أمين المراسم القريب من باب الخيمة ومن باب العزيزية سمع الكثير وشاهد الكثير، فضلاً عن انه كان يرافق القذافي كظله في الأسفار والمؤتمرات.

لم يكن في ليبيا دستور ولم يكن فيها قانون. كانت البلاد تعيش على ساعة مزاج القائد. وحين يعتكر مزاجه يعاقب التقصير البسيط بالسجن في المخالفات التي لا يرى انها تستحق الشطب الكامل والإلغاء. كان المسماري في السجن حين انعقد مؤتمرٌ في ليبيا. لاحظ الوفد القطري التحضيري غيابه فسأل وعرف. بعدها تدخّل رئيس الوزراء القطري وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني لدى العقيد فعاد المسماري الى عمله. خلال تنفيذه مهمة في مالي التي شهدت احتفالات حضرها الزعيم الليبي، شعر المسماري ان شيئاً يُدَبَّر له ونصحه ضابط ليبي بالفرار، وهذا ما حصل. وهنا نص الحلقة الخامسة:

متى غادرت ليبيا ولماذا؟

– كانت لدي مشاكل خلال عملي مع القذافي وسجنتُ مرات عدة. كنت أحاول أن ألفته الى بعض المسائل لكن ذلك كان صعباً لأن المحيطين به كانوا من أقربائه، وكنا نسميهم «زبانية الخيمة». كان أعضاء جوقة المدّاحين هذه يهللون ويكبّرون اذا أطل عليهم بملابسه الأفريقية مثلاً وهو كان يحب المديح والمدّاحين.

أعطنا مثلاً عن عملية سجنك.

– سُجنتُ مرات عدة بعضها لأسبوع ومرات لشهر. في المرة الأخيرة كان هناك مؤتمر في طرابلس. وكالعادة هناك وفود تحضيرية تصل باكراً. لاحظ أعضاء من الوفد القطري غيابي. استفسروا فأبلغهم أعضاء في المراسم أنني في السجن. السجن كان عبارة عن اماكن محددة للإقامة لكنه سجن.

كان ذلك في العام 2010 في فندق «ريكسوس» في الغابة في طرابلس. اتصل رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم بالقذافي وطلب منه أن يعفو عني. ليلاً اتصل بي مدير السجن العقيد ع.س، وهو يعتبر من أكبر المجرمين في عهد القذافي وقام بتصفيات خارجية وكانت بأمرته مجموعة يُطلق عليها كتيبة الإرهاب. كان هذا الرجل يُطارد من أسموهم آنذاك «الكلاب الضالة». أبلغني بقرار إخراجي من السجن. طبعاً الدخول الى السجن والخروج منه مسألة عشوائية في عهد القذافي. أثناء وجودي في المعتقل التحق بي البغدادي المحمودي أمين اللجنة الشعبية العامة ورئيس الوزراء وكذلك وكيل وزارة المالية ومحافظ مصرف ليبيا المركزي وعلى ما أعتقد مدير مصرف الأمان لموضوع مالي يتعلق بابن القذافي المعتصم بالله. م اطلق سراحي وفي اليوم الثاني التحقوا بي لأن المؤتمر على الأبواب.

ذهبت الى المؤتمر وأشرفتُ عليه وحضر حمد بن جاسم وسلمت عليه. قال لي القذافي عليك ان تشكر هذا الرجل الذي اطلق سراحك فلولاه ما كنت لتخرج من السجن. طبعاً حمد بن جاسم تحدث الى القذافي وقال له: نوري رجل مخلص ومحترم وطيب ولا يستأهل السجن. انتهى المؤتمر وعند مغادرة القذافي قلت له هل أعود الى السجن ام أذهب الى البيت، قال الى البيت. وكان بعدها العيد 41 لما يسمى ثورة سبتمبر، وللأمانة هي في البداية كانت ثورة لأن من قام بها هم ضباط احرار ومخلصون لكن القذافي سرقها لغرض في نفسه والدليل انه انشق عليه الكثير من الضباط الأحرار وأعضاء مجلس قيادة الثورة.

كُلِّفتُ بمهمة في مالي وكنا في شهر رمضان وقمتُ بالمهمة بنجاح. وبعدها كانت الاحتفالات الكبرى التي حضرها القذافي، وأثناء الاحتفالات بأعياد الاستقلال والحرية لمالي تعرضتُ لحادثة وأحسست بأن القذافي يبيّت لي شيئاً لأنه كان مشمئزاً مني.

هل عبّر عن ذلك؟

– أذكر ان رئيس مالي امادو توماني توري الذي أطاحه لاحقاً انقلاب عسكري قال ان كل هذه الاحتفالات والاستعراض العسكري والقوات والإنزال المظلي الفضل فيها يرجع الى السيد نوري لما قام به، واستسمحكم بمنحه وساماً. رد عليه القذافي مستهزئاً وقال: «لو لم يفعل هذا لكنا قتلناه». أحسستُ بشيء من القلق. كان هناك ضابط اسمه العميد عبدالسلام الحاسين حضر إلى مالي على رأس مجموعة من القوات الخاصة الليبية لتأمين زيارة المقبور العقيد. جلستُ معه وسألني عن أسباب انزعاجي فأخبرته. والظاهر انه كانت لديه معلومة عما يدور. رده كان قطعياً اذ سألني هل بإمكاني ان اغادر ليبيا وأترك؟ الآن هو عميد يمسك العمليات للقوات الليبية. قلت له نعم. فقال هذه نصيحة أخ لك ان تغادر. ودعنا القذافي الذي طلب مني ان ارافقه كما يفعل دائماً. قلت لله انني مضطر للبقاء لأضمن ترحيل الجنود والآليات والطائرات. بعد مغادرة الطائرة قال لي الضابط الليبي: انا اهتم بالترحيل، وانت عليك المغادرة. سلمت عليه، وأخذت الطائرة الى تونس. مرضت ودخلت الى المستشفى. بقيت 3 أيام في تونس ثم توجهت بالباخرة الى مرسيليا في فرنسا، ونزلت في الفندق وكنت مريضا بالقلب وقال لي الطبيب انني احتاج الى علاج وقد يتطلب الامر اجراء قسطرة لتركيب دعامة. اخافني هذا الامر فسافرت الى ايطاليا وكان الكلام نفسه. اتيت الى الاردن واستُقبلت من جانب التشريفات الملكية وكانت المعاملة خاصة جداً. بقيت هناك، وبعد عشرة أيام تعبت وأخذوني الى المستشفى واضطروا الى إجراء قسطرة وركبوا دعامة، وتوقف قلبي لمدة عشر ثوانٍ عن النبض وتمت توعيتي بالصدمات الكهربائية وخرجتُ من المستشفى وتوجهتُ إلى فرنسا. آنذاك للأمانة لا أريد ان اتهم جميع الضباط وقيادات الأمن الخارجي بالعدوانية، لكن هناك من كان يوحي لهم من أقارب مجموعة القذافي لأن القذاذفة كانوا يخططون لإبعادي بأي شكل من الأشكال. فكانوا يحاولون الإساءة الى سمعتي دائماً. ذات مرة تمت تنحيتي وبعد أسبوع إعادتي من جديد بعد فشل مؤامرتهم. وكان سيف الاسلام القذافي يخطط لوضع شخص (في مكاني) من مجموعة تابعة له. أرسل مجموعة الى الأردن لدراسة شؤون البروتوكول ومراسمه، وكان بينهم واحد من القحصة (هم أقارب مباشرون للقذافي) واشترك في هذه المؤامرة لتنحيتي البغدادي المحمودي، وكان هناك صراع دائم بيني وبينه لأنه كان من مجموعة سيف الإسلام. لم تنجح المؤامرة وكان الصدام بيني وبينهم وقدمتُ استقالتي فرُفضت. وكان الصدام بيني وبين البغدادي المحمودي دائماً.

ما حدث أنني عدت الى فرنسا. هناك اتصلوا بالقذافي وأبلغوه بأنني هربت. القذافي خاف. وهو كان دائماً يخاف إذا سافرت حتى للعلاج. كان يتخوف ان أنشق خصوصاً انني تركت العمل معه في 1982 لمّا غادرت ليبيا. نُشرت مقالة ضدي في جريدة إيطالية وأعتقد أنها كُتبت بتعليمات لصحيفة إيطالية مأجورة، وفيها اتهام لي بالتخطيط للانقلاب على القذافي او للثورة في ليبيا.

لكن الثورة لم تكن بدأت بعد؟

– صحيح. اتصل بي المعتصم نجل القذافي فقلت له إنني مريض وأخضع للعلاج وسأعود بعده. قال لي يا عمي نوري (كانوا دائماً يخاطبونني عمي نوري) استمر في علاجك وحين ترجع نستقبلك. بعدها حدّثني سيف الإسلام، وعلاقتي به محدودة الى أبعد حد. كنت ألتقي به صدفة في بيت والده أو في الخيمة. سألني عن أحوالي وقال: هؤلاء كلاب ومخابرات. وصدرت بعض المقابلات الصحافية نقلاً عن مصدر موثوق به مقرب من سيف الإسلام تقول ان هذه مؤامرة من الأجهزة الأمنية ضد السيد نوري المسماري.

ماذا قال لك ايضاً؟

– سلّم عليّ. قلت له إنني متعب ومريض. فقال نأمل ان ترجع بالسلامة. وصدر هذا المقال. كانت المؤامرة تحاك بأن نوري سيهرب وينشقّ، فدبروا لي مؤامرة دنيئة مع النائب العام- تعرفون ان النائب العام يتبع وزير العدل لأن القضاء ليس مستقلاً- النيابات كلها تتبع وزير العدل وكان المستشار مصطفى عبدالجليل. وحاول عبدالله السنوسي وعبدالله منصور التنقيب في أوراق جهاز المراسم العام لتلفيق اي أي تهمة يمكن تلفيقها لكنهما لم يعثرا على شيء.

من هو عبد الله منصور؟

– كان عميداً في الجيش ومديراً للإذاعة الليبية ومن بعده أتى علي الكيلاني. وهو قريب لعبدالسلام الزادمة الذي كان من الأمن الخارجي ومات. كان أكبر مجرم ومشترك في التصفيات. كان مجرماً وشارك في تصفيات عدة لليبيين في الخارج. فمنصور والسنوسي حاولا تلفيق أي تهمة لي ولم ينجحا فطلبا من النائب العام في الاجتماع تلفيق تهمة لنوري المسماري بأي شكل من الأشكال، وكان هذا للأسف في ذاك الوقت بإشراف وزير العدل وبتعليمات من القذافي، ولُفّقت لي مؤامرة واتُّهمتُ بالمس بالمال العام. وكانت مؤامرة غبية لأن ميزانية جهاز المراسم كانت اسميّة للمراسم العامة وكانت تُدار من اللجنة الشعبية العامة التي هي رئاسة مجلس الوزراء.

لُفِّقت لك تهمة فاعتُقلتَ في فرنسا؟

– القذافي طلب من الفرنسيين ترحيلي الى ليبيا. رفض الفرنسيون. تم تدبير اتفاقية مالية (بين ليبيا وفرنسا) لشراء طائرات يشرف عليها محمد الحويج وزير الاقتصاد آنذاك، وتُقدَّر الاتفاقية بنحو مليار ونصف المليار يورو.

لشراء الأسلحة؟

– طائرات وتكنولوجيا وأمور متطورة. وهذه وضعت كوسيلة ضغط لترحيلي، لكن للأمانة (الرئيس الفرنسي السابق نيكولا) ساركوزي رفض، وقال ان الموضوع بيد القضاء. هدد القذافي بإلغاء الاتفاقية. أجابوه افعلوا ما تشاؤون ونحن لا نستطيع ان نرحل إلا بأمر من القضاء. أرسل القذافي مجموعة تحت إشراف ضابط من جهاز الأمن الخارجي، وهنا لا أريد ان أجزم ان جميع ضباط الأمن الخارجي من أعوان القذافي، هناك طبعاً أقرباء عبدالله السنوسي وعبدالله منصور وأقرباء القذافي وهم بالطبع مخلصون له، لكنْ هناك في جهاز الأمن الخارجي عدد من الوطنيين والثوريين والشرفاء قاموا بمساعدة ثورة 17 فبراير بكل ما لديهم. وهذا الضابط اسمه الأول سعد كان يعرفني جيداً، فطلب (القذافي) منهم الذهاب على رأس مجموعة لاغتيالي. الضابط المكلف كان قنصلاً في فرنسا ويعرفها. لم يحاول جدياً الإيقاع بي لأنه كان يعرفني جيداً ويعرف وطنيتي.

أُرسل الفريق الى فرنسا؟

– نعم. معظم القناصل كانوا ضباطاً في جهاز الأمن الخارجي وكانوا يمسكون مناصب قناصل عامة لهذه الغاية. السلطات الفرنسية عرفت ان هناك مجموعة وصلت لتصفيتي فتم اعتقالي وأُدخلتُ السجن وكانت المعاملة جيدة. هناك أمور أمنية وسياسية. كان المطلوب ان أبقى متحفّظاً عليها قدر الإمكان لأنه كان هناك تخطيط لقتلي بأي شكل من الأشكال. بدأت الاتصالات بي (من ليبيين) محاولين إقناعي بالعودة ورفضت. وتم تكليف محامٍ لي وبعدها اطمأنّ الفرنسيون حين اضطرت مجموعة الاغتيال الى المغادرة.

اتبع القذافي اسلوباً رخيصاً آخر بعدما أفرجَت المحكمة عني من دون كفالة مع حفظ حرية التنقل الى حين صدور الحكم، فأرسل إلي عبدالله منصور، وأذكر انني اجتمعت به في فندق «فوكيت» وصافحني وكان اللقاء جيداً وأبلغني تحيات «أخوك»- لا يقولون القائد بل يقولون اخوك. مثلاً طلب منك أخوك. اذا كان الحديث عن تعليمات او سواها. لهذه الكلمة معنى مختلف عن ذاك الذي يظنّه الناس انه يُستخدم للتقرُّب، بل هي بالعكس، تُستخدم كي لا تعود الكنية معروفة- قلتُ له انتم لفّقتم لي تهمة رهيبة هي المس بالمال العام، فقال انت تعرف ونحن لفّقناها تلفيقاً. فأجبته وتعترف بذلك. وكان هذا الحوار بشهادة ابنتي امال وثريا وشخص اسمه مالك بعيّو. قال انت تعرف أخاك. فقلت من اين هذه التعليمات؟ فأجاب: من أخيك، لكن ما ان تعود سنلغيها. فأجبته بأنني لن اتحرك من هنا إلا بعد ان تتنازلوا وتسحبوا هذا الاتهام شئتم أم أبيتم. ولم تنجح المحاولات. فقال: انت الآن علاجك على حساب الدولة الليبية وتعال اسكن في هذا الفندق «فوكيت» وإقامتك ستكون على حسابنا. المهم قَبِلت. لأنني كنت أريد ان أرى الى أين سنصل. مُنِعت عائلتي من مغادرة ليبيا. وأقاربي وأبنائي وأحفادي مُنعت عليهم المغادرة. وكانت هناك دائماً اتصالات بالهاتف من السنوسي وقال إنه يعطيني الأمان. لكن أنا كنت أقول: الثقة في محمد ومحمد مات. وحاولتُ ان أجد مبرراً وقلت إنني لا استطيع مغادرة فرنسا إلا بأمر من المحكمة، لكن هذا غير صحيح. حضر السفير الليبي آنذاك الدكتور صلاح الزارم وهو صديقي لكنه من مجموعة موسى كوسا، وحاول ايضاً إقناعي. ومن ضمنها كانت جلسة محكمة حضرها الزالم ومعه عضو من السفارة وأبلغنا القاضي بأن السفير ومجموعة موجودون، فأمر بتأجيل القضية. ورجعنا وحضر عبدالله منصور من جديد واجتمعت به وسألتُه كيف تقول لي «اخوك يطلبك ومنعتم أسرتي من السفر. حضرت ابنتي ثريا وآمال محاولتين إقناعي. وأثناء القضية حضرت ابنتاي ست الكل ومنال الى فرنسا للوقوف الى جانبي، وست الكل كانت مقيمة في الأردن لأن زوجها سكرتير أول في السفارة وامال وثريا كانتا في طرابلس ومنال حضرت من اميركا حيث تقيم ووقفن الى جانبي لأنني كنت مريضاً ايضاً. وأثناء ذلك اتصل ابني ايهاب المسماري الذي كان مستشاراً في سفارتنا في كندا وانشق. واتصل بابنتي آمال أكبر بناتي وقال لها ان كل مصاريف المحامي على حسابي ولا تقبضوا شيئاً من الحكومة الليبية وتحمّل كل التكاليف.

وكرر القذافي محاولاته؟

– حضر عبدالله منصور وحاول إقناعي ولم أقتنع وكنت متخوفاً. ابنتي ثريا طلبها معمر القذافي للحضور وذهبَتْ لمقابلته وقال لها نوري مثل ابني وأخي وأحبه وليقل أي منصب يريده. بالطبع بناتي لا يعرفن خفايا هذا الرجل. فأتين مبتسمات. كانت ثريا في جهاز المراسم وفي الوقت نفسه انتدبت سكرتيراً اولاً في سفارتنا في السيشيل وابنتي غادة ايضاً في السيشيل وهي أيضاً انشقّت. لم أقتنع. ثم حضر ابنه المعتصم بالله وطلب مقابلتي، هنا بدأت أشعر بالخطورة.

جاء المعتصم الى باريس؟

– نعم. وأقام في فندق «بريستول». وطلب مقابلتي وكان هناك تخوف من عملية خطف. فأبلغتُ السلطات الفرنسية، فطلبوا مني الذهاب وبصحبتي عناصر من الأمن الفرنسي.

اين اجتمعت به؟

– اجتمعت به ليلاً في فندق «بريستول» وكانت معي آمال وثريا. اجتمعنا به وكان لقاء جيداً، ولا أنكر ذلك. قال المعتصم: أهلاً عمّي نوري كيف حالك وماذا حصل؟ أخبرتُه. وكيف تسجن. كانت في تلك الفترة احداث ثورة يناير(كانون الثاني) بدأت في مصر. وكانوا ينقلونها عبر شاشات التلفزيون. التفتُّ الى المعتصم وقلتُ له: انظر ما الذي يحصل. عندها رد المعتصم للأمانة رداً غريباً، وقال: «هذه نهاية كل الديكتاتوريات».

التفتُّ صوبَ ابنتي ثريا وآمال، وكان المعتصم ذاهباً لإحضار شيء من غرفته لاحظت وجود نحو 15 زوج حذاء اعتقد انها لجماعته الذين كانوا معه. قالت ابنتي: ما هذا الرد؟ كان الرد عدائياً على والده. عاد. لم نستمر في الموضوع. كان معترضاً على كل ما يقوم به والده من تدخلات في شؤون الدولة والأمن. وقال لي بالحرف الواحد: أنا مستشار الأمن القومي صورة فقط، لا حول لي ولا قوة.

المعتصم الذي قتل لاحقاً؟

– نعم. قتله الثوار. قال لي المعتصم: طائرتي معي وغداً سأغادر فرنسا وأريدك ان تعود معي. قلت ان شاء الله سنرى وعدت الى البيت.

بناتي كن مهتمّات ورجونني ان أعود، وحاولن لكنني رفضت. اتصل بي مدير مكتبه وقالوا: نحن أجّلنا السفر وسنسافر غداً، فعمّي نوري جهز نفسك ومستشار المعتصم يُسلّم عليك ويطلب منك ان تجهز نفسك لأننا سنغادر. فقلت انه لا يمكنني المغادرة لأن لدي موعداً لكشف طبي. حصل صدام بيني وبين بناتي لأنهن كن مقتنعات بالكلام الذي سمعنه. سواء ما سمعته ثريا من القذافي في طرابلس وسواء ما قاله المعتصم او ما قاله عبدالله منصور ان عملية الاتهام تلفيق وبأمر من القذافي ستتم ازاحتها. لكنني أصريت. غادر المعتصم وأتى السفير ومعه محام ليبي مقيم في فرنسا محاولين اقناعي لكنني رفضت. طلبوا مني ان اقول للقضاء الفرنسي يوم المحاكمة انني قررت العودة الى ليبيا فيسمحون لي بذلك. مغادرتي فرنسا من عدمها قرار لي لأن المحكمة لم تضعه شرطاً ولا حتى كفالة. بالنهاية إرضاءً لآمال وثريا قررتُ المغادرة والعودة الى ليبيا، وخلال وجودي في المطار حضر احد أعضاء مكتب المحامي الفرنسي. قال إنه يفضّل ألا أعود الى ليبيا. وأضاف: العودة ليست في مصلحتك وقد تكون هناك أخطار. عندها ألغيتُ السفر واسترجعتُ التذكرة وعدتُّ الى الفندق وبدأت بوادر الثورة. وظهرتْ دعوات لجعل يوم 17 فبراير يوم غضب وبدأتْ التحركات على فايسبوك وكنت أُتابعها وكان يتصل بي بعض الأصدقاء. وكان يوم 17 يوم الغضب. حصلت الانتفاضة يوم 14 في البيضا حيث قبيلتي قبيلة المسامير والبراعصة وقبائل أخرى. منطقة الجبل الأخضر كلها قبائل قوية منها العبيدات… المهم بدأت الاحداث وحصل ضرب. يوم 17 مصادمات، 18 مصائب، 19 بدأ الضرب. انا انزعجت. يوم 20 كان القتل ساحقاً. في اليوم التالي ظهرتُ على «الجزيرة» وأعلنتُ انشقاقي.

كنتَ أول المنشقين؟

– نعم أنا الأول. وبعدي مباشرة احد اعضاء المراسم كان منتدباً في الصين حسين المصراتي وبعدها انشق السفير في االهند… ثم السيد مصطفى عبد الجليل وبدأت الثورة.

عملتَ مع القذافي مديراً أميناً لجهاز المراسم العامة من العام 1997 حتى العام 2010، هذا يعني أنك كنت الرجل القريب من القذافي؟

– وقبلها أيضاً عملت معه من العام 1977 حتى العام 1982، ثم غادرت.

إذا أردنا ان نصف شخصية القذافي، كيف نصفها؟

– القذافي شخص مغرور يعتقد انه الوحيد الذي يعرف والوحيد الذي يفهم، وأنه شخص ضليع في القانون والاقتصاد والشؤون الاجتماعية والسياسية. الكلمة الأولى والأخيرة له ولا يقبل ان يعارضه احد. يحب التباهي ويميل إلى من يشيد به ويقول عنه انه كبير وأنه أعظم شخص. ثم ان أي شخص ينصاع له يحصل منه علىا مكاسب وهذا ينطبق ايضاً على رؤساء الدول.

على سبيل المثال، من هم رؤساء الدول الذين عنيتهم بكلامك؟

– بعض الرؤساء الأفارقة.

لم تعد ثمة حاجة للتكتُّم؟

– لا أريد أن أتعرّض لتلك الأسماء. انا سأكتب كتاباً محاولاً عدم التجريح بأولئك الرؤساء.

لكن تلك الحقبة ستتكشّف في النهاية؟

– إن شاء الله في فترات مستقبلية سأتحدث عنهم. كان هناك رؤساء أفارقة يؤثر عليهم القذافي، مثل رئيس الكونغو برازافيل ساسو نغيسو، ورئيس مالي امادو توماني توري، وكان رئيس نيجيريا اباسانجو متقلباً، مرة كان مع القذافي ومرة أخرى ضده. وكان من ضمن الرؤساء المؤثَّر عليهم من جانب القذافي ويمتصهم بأمواله رئيس ليبيريا الديكتاتور السابق المسجون تشارلز تايلور. وكان القذافي على علاقة وطيدة برئيس بوركينا فاسو بلايز كامباوري، لكن هذه الصداقة حصل فيها انشطار نتيجة زيارة كامباوري اسرائيل. وكان أيضاً مؤثراً على الرئيس الغاني جيري رولينغز، وكان له تأثير كبير على رئيس سيراليون كما كان للقذافي تأثير نسبي على رئيس ساحل العاج، وتأثير على رئيس افريقيا الوسطى بوزيزي، وهذا ايضاً كان مدعوماً من رئيس تشاد ادريس ديبي ووصل الى السلطة في ظله وانضم الى جناح القذافي. لكن بين القذافي وبين ادريس ديبي كان يحصل تقارب في بعض الأحيان وابتعاد في أحيان اخرى، وفي الفترة الأخيرة كان هناك تقارب بينهما.

هؤلاء الرؤساء كانوا يتقاضون اموالاً من القذافي؟

– من دون شك، مساعدات واستثمارات في بلادهم. والاستثمارات والهدايا كانت من مسؤولية مدير مكتب القذافي السيد بشير صالح الذي كان يتصرف بتعليمات وأوامر، وكان يمسك المحفظة الافريقية.

وعلى أيّ من الرؤساء العرب كان القذافي مؤثراً في السنوات العشر الاخيرة؟

– كان تأثير القذافي على الرئيس التونسي زين العابدين بن علي مؤكداً. وبين القذافي والرئيس عبد العزيز بوتفليقه كان هناك نوع من البرود، لكن في بعض الأحيان كان يتم التقارب بينهما. في بداية الأمور كان هناك انشقاق بين بن علي والقذافي لكن عاد التقارب من طريق أنسباء زوجة بن علي وعائلة صهر بن علي، وخلال زيارات القذافي لتونس كانت تقام له حفلات كبيرة. كان القذافي في السنوات الأخيرة يدعم صاحبي القرار في تونس ومصر.

(اضغط لقراءة الحلقة الأخيرة )

المصدر: الحياة