توفيق السيف.. نوَّر الله دربك

آراء

التجارب التي يمر بها الحفيون بالطموح هي حالات تطهر عالية التركيز من أدران الرحلة ــ كل رحلة ــ ومهما كانت مرارتها فإن فضلها الأول والأبدي أنها تعيد الإنسان دائماً إلى ذاته الحلوة كي يعتدل صافياً ورائقاً كما بدأ؛ إن اختلت به مقادير الملح والسكر، أو زادت من حوله بهارات البغي الاجتماعي المتمذهب بالبله والاستعداء؛ لقد وُلد الإنسان حراً ثم تمذهب فانشطرت حريته ومن ثم احتقنت، ورفعت عقيرتها بالبغضاء في غير أوانها، ولا أوان أبداً للبغضاء بين البشر إن كانوا يعقلون..

الخيارات عدة كي يُصبح الإنسان شيئاً مذكوراً ومهماً في هذه الدنيا؛ الثراء والجاه والمنصب وغيرها من الملهيات التي تذهب مع الرياح، ولكن أعظمها وأكثرها بقاء عند العقلاء أن يكون الإنسان إنساناً بالمعنى العميق للإنسانية، وأن يتجاوز عقد التصنيف ومحاولات الابتلاع الهمجي المنظم، وأن يسمو على الجراح التي تصيبه في رحلة فنائه الدنيوي، وكلنا فانون وذاهبون مهما فعلنا وتشبثنا بقشرة الأرض..

ما تحت سطح الجمجمة هو الحضارة المهيمنة التي تحدد مستقبلك وبقاءك وصمودك في مواجهة المحن، ومهما حاولت التغطية فستكشف الأيام عن مقدار حضارتك المختبئة تحت سطح جمجمتك، ويا لها من حضارة واثقة ورائعة يا عم توفيق تلك التي جعلتك مقبلاً على الدنيا لا مدبراً برغم المطبات والصعاب!!

حراً يولد الإنسان ومكرهاً يموت، وما بينهما توجد بصمتك، ورنة صوتك وبهاء أفكارك، وأنت من يختار اللون ورائحة العطر وتعرجات الجذوع السمراء، ومهما كان خط سيرك في هذه الدنيا فإنها أصغر من سم خياط؛ ما لم تلجها على صهوة حب وتسامح وإنسانية، وعندها ستصبح شاشة بلازما لنظارة لا يملون؛ بل يستزيدون الشغف كلما مر الوقت وبردت أقداح القهوة، وحليب الزنجبيل، وجمر النراجيل في مقاهي العمر.. رحلتك مهما كان طولها تحسب بإحساسك العالي بمن حولك وبمدى مشاركتك إياهم وجبات الحكاية، وكم هو مؤلم على الذين يعيشون في أبراج عاجية أن يشير التاريخ إلى مقدار انفصالهم وعزلتهم المرة حينما يرحلون.. العم توفيق لم يعتزل ولم يعِش في برج عاجي، ولذلك نعرفه جميعاً من الشرق إلى الغرب إلى الجنوب إلى الشمال كما يعرفه أهل القطيف بناسها وشوارعها وحواريها.. هذا الرجل يخصنا جميعاً؛ نعم يخصنا جميعاً.

توفيق السيف من الذين تخطوا مراحل المكفوفين، وألغوا بصفائهم همجية الحدود المصطنعة لكل الشغوفين بالولوغ في سموم الموروث الأهبل؛ ألسنا أغبياء جداً حينما يعبث فينا وبنا الورق الأصفر يا عم توفيق؟ تأكدوا أن هذا الورق المر قد يتحول إلى فرمان حظر تجول بين القلوب البيضاء حينما نلقي له بالاً أكثر من اللازم، وفي غير أوانه ولا عصره.. أليست الحياة رائعة ومكتنزة بلا أوراق صفراء مشكوك في صحتها وفي مبتدئها وأخبارها الشوهاء؟

في بداياته يتعلم الإنسان تسجيل أكاذيبه على ورق محايد، وحينما يشتد به البغي ويصفر الورق يعود في كل مرة إلى ترميمه و(دسترته) بما يسمح بهيمنة البغي؛ يا الله كم أنت شقي أيها الإنسان بكثرة حواشي اللون الأصفر!!
لا شك أن من ينهون حواراتهم مع المختلفين بدعوة (نور الله دربك) هم خلاصة الجذوع الأعمق في كل أرض مكفهرة، وهم وحدهم من يصلون المقطوع ويداوون جرحى العبط المستفحل، وهنا يمكن أن نرى ضخامة توفيق السيف وابتسامته الواثقة التي تخرج باستمرار من بين الدخان والحرائق المفتعلة.

العادلون مع أنفسهم ومع التاريخ يدركون أن توفيق السيف عملة لا تشيخ ولا تتبدل؛ فقدره أن يكون للجميع وأن يكون هو الجميع في آن.. إنها الصرخة نفسها في كل الربوع، ولكن بنكهات متعددة، ومذاقات تختلف درجات استطابتها من شخص إلى آخر؛ لقد وُلد هذا السيف على الساحل الشرقي، ولكنه أوصل أحلام هذا الساحل إلى كل الجهات التي لم توشوش صدف البحر يوماً، ولم تأخذه على محمل الجد إلا في المناسبات.

المصدر: الشرق