عبدالوهاب بدرخان
عبدالوهاب بدرخان
كاتب ومحلل سياسي- لندن

مرحلة إحياء الوحشية وتسخيفها

آراء

تتزاحم الوقائع في مرحلة باتت تستحق بامتياز، أو بالأحرى ببالغ الخزي، لقب «سنوات العودة إلى الوحشية»، إذ تُمارَس بأحدث الأدوات أو بأكثرها بدائيةً، وتُنفَّذ على أنها من أجل قضيةٍ ما رغم أنها تسيئ بالضرورة إلى أي شعب وأي قضية. ومع أن المرتكبين مسؤولون مباشرون عن أفعالهم إلا أن المسؤولية تُعزى أيضاً إلى من آلت إليهم شؤون الإدارة والتدبير. فكل تجاهلٍ لظلم هنا أو هناك، وكل إشعال لنزاعٍ وسعي إلى استغلاله، وكل إهمالٍ لتطرف وإرهاب، أفضت جميعاً إلى نتائج إنسانية كارثية تفضي بدورها إلى نزاعات وتطرّفات متوالدة ومتكاثرة وبات متعذّراً ضبطها.

خذوا وقائع أخيرة حصلت في غضون أيامٍ وأسابيع متقاربة، بعضٌ منها مفاجئ لكن معظمها بدأت فصوله قبل زمن ولا تزال تتفاعل، وكلّها محصّلة طبيعية للفشل/ أو لعدم الرغبة في إيجاد حلول، ذاك أن عودة صراعات «الحرب الباردة» بين الكبار ساهمت في إفلات موجة «الوحشيّات»، التي لا يُعرف متى تتراجع وتنتهي:

… يأمر الجيش الإسرائيلي سكان منطقة تلو أخرى في غزة بإخلائها ويرفق تحذيره بعبارة «أعذر من أنذر»، ما تعتبره الولايات المتحدة «احتياطات» جديرة بالتنويه يقوم بها الإسرائيليون لتجنب المدنيين في عملياتهم العسكرية. وكأن مئات الضحايا والمصابين، وغالبيتهم من الأطفال والنساء والمسنّين، لم يسقطوا بفعل الطائرات المغيرة والصواريخ «الذكية»، التي لم توفّر أيضاً بضعة آلاف من المساكن والأبنية من دمار كلّي أو جزئي. لكن ماذا عن الإخلاء القسري، هل فكّر أحدٌ في إسرائيل أو أميركا بما يعنيه للمدنيين، وهل هو أقل من «إرهاب دولة»؟ وهل يصعب توقّع ما يزرعه من قهر وتطرّف طالما أن لا سلاماً ولا حياة طبيعية يولدان من التوحّش العسكري المتكرر، وكأن غزّة متروكة لقدر جعلها مجرد بؤرة اعتمال تستلزم جراحة بين الحين والآخر، لكن مع إبقاء جرح الحصار والتجويع والتنكيل مفتوحاً ليعتمل مجدداً.
… فجأة تسقط طائرة ماليزية مدنية من أجواء أوكرانيا إلى أرضها، ويقضي فيها نحو ثلاثمائة شخص، بينهم عشرات الاختصاصيين في مكافحة «الإيدز» كانوا في طريقهم إلى مؤتمر علمي في ملبورن محوره علاج وشيك للمرض. هناك من قال إن الدواء ربما كان على متن تلك الطائرة، وآخر توقّع أن الكارثة ستؤخره. ولا شك أن الجدل الذي دار فوق الجثث ضاعف من حجم هذه الكارثة، حين راح الجميع يتراشق الاتهامات ويتبرّأ مما حصل، فيما رجحت مسؤولية انفصاليي شرق أوكرانيا بإطلاق صاروخ أصاب الطائرة وهي على علو شاهق وفي ممر جوي اعتيادي آمن. لم توحِ موسكو ولا أنصارها الانفصاليون باعترافهم بأي تبعات، سعوا إلى العبث بمسرح الجريمة لتضليل التحقيق الدولي. ما السبب المباشر لهذه الكارثة؟ نزاعٌ داخلي تحوّل مواجهة دولية، وميليشيات حصّنتها روسيا من أي عواقب حتى لو بلغت ارتكاباتها إطلاق صاروخ عشوائي.

… في نيجيريا لا تزال نحو مئتي فتاة في قبضة تنظيم «بوكو حرام» الإرهابي الذي اختطفهن منتصف أبريل الماضي من مدرستهن مطالباً بإطلاق معتقلين من أنصاره. وقد استثار الحدث اهتماماً دولياً خاصاً، فأبدى العديد من العواصم استعداداً للمساعدة، ولم يُحرَز أي تقدّم، بل إن مئات القتلى سقطوا في هجمات مكثّفة واصل التنظيم شنّها في شمال شرقي البلاد. وحتى الآن لم تستطع الدول الكبرى، التي استفزّها مصير الفتيات وتحمست لتحريرهن بأقصى سرعة، الحصول على تعاون مجدٍ من الدول المجاورة التي يشتبه بأن بعضاً منها يمرّر دعماً وتسهيلات لـ «بوكو حرام» الذي أرسل أخيراً إشارات تقارب مع تنظيم آخر هو «الدولة الإسلامية في العراق والشام». وكلاهما أصبح مشهوداً له بأنه فاق تنظيم «القاعدة» وتجاوزه بالعنف الوحشي.

وبين سوريا والعراق أصبح تنظيم «داعش» يطبّق «شريعته» الخاصة التي يتبدّى أنها نسخة من «شريعة الغاب» وقد تكون وحوش الغابات وحيواناتها أكثر اتزاناً منه. فمع دخول الرجم حتى الموت، بالإضافة إلى قطع الأعناق والصلب حتى الموت، فقَد هذا التنظيم كل علاقة بالإنسانية بعدما قطع كل اتصال بالعصر وأثبت أن عقيدته الوحيدة تترجّح بين القتل والاضطهاد. حتى أن ما تسمّى «مكاتب الحسبة» التي أنشأها يديرها مجرمون يلقّبون بـ«القضاة» ولا عمل لهم سوى التفنن بمضايقة الناس والتسلّط عليهم وعلى أملاكهم. لا شك أن الذين دعموا هذا التنظيم، سواء كانوا أشخاصاً عاديين أو أجهزة لها أجندات، ساهموا في صنع وحش وظنّوا أنهم سيتمكّنون دائماً من ترويضه لكنهم يخشون الآن أن يرتدّ عليهم.

يعيش العرب خصوصاً ولادة استبدادات جديدة، نتيجة ارتدادات الخداع في تسوية القضية الفلسطينية والحرب الغبية على الإرهاب ونهاية استبدادات لم يعرف أحد ما كانت تغطّيه من أمراض إلا بعد سقوطها. لذلك تتكرر حروب غزّة ويستشري الإرهاب وتحاول الاستبدادات القديمة إعادة انتاج نفسها باعتبار أن الوحشيات المستأنسة أفضل من تلك المنفلتة.

المصدر: الاتحاد
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=80315