جاسر عبدالعزيز الجاسر
جاسر عبدالعزيز الجاسر
مدير تحرير صحيفة الجزيرة

تمير … معنى المواطنة

آراء

لعلها أول عملية أمنية ينفذها المواطنون فعلاً ليس عبر الإبلاغ، وإنما عبر التحرك الشعبي والتواصل مباشرة مع الملك ووزير داخليته، لإيضاح حجم الخطر الذي يتهدد مدينتهم الوادعة ما أدى إلى القبض على ثمانية أشخاص أرسلوا نحو 34 شاباً صغيراً إلى مواقع القتال في العراق وسورية.

هذه المدينة العريقة استشعرت الخطر بتوالي اختفاء شبابها وأدركت أن يداً خفية تتلاعب بعواطفهم، وتستغل حماستهم، فلم يتراخ أهلوها ووجهاؤها في وقف هذا النزف المؤلم، وإنقاذ أبنائهم من مصيدة الإرهاب، بل جسّدوا معنى المواطنة حماية لدينهم أولاً، وممارسة للأبوة، وولاءً صادقاً للوطن.

عملية تمير تكشف عن أن المناطق الصغيرة أكثر نشاطاً في عملية التجنيد، بحكم محدودية التجمعات الشبابية، فما أن تنتهي المهمة الصعبة في تجنيد أول شاب ودفعه إلى حضن الجماعات الجهادية حتى يبدأ مراسَلةَ زملائه مستعرضاً الإغراءات والامتيازات التي وجدها، ومتعة الحياة التي يعيشها محرضاً إياهم على اللحاق به، وهو ما يفسر، جزئياً، سبب خروج 34 شاباً من المدينة ذاتها فقط. يزيد التأثير أن بعضهم ربما خرج وعاد أكثر من مرة موحياً لزملائه أنها تجربة لا تضر، فإن لم يعجبه الحال تمكنه العودة متى شاء. وهذا الإغواء الجزئي، وإن كان شكلياً، أبرز وأخطر أدوات «داعش»، وأكثر طرقه استقطابه الشاب الذي يجد هناك أصدقاء طفولته وزملاء دراسته، أما الوقود المحرض فهو فتوى أن هذا العمل هو الجهاد الحق والطريق إلى الجنة ونصرة الإسلام. عملية التجنيد هذه لا تتطلب سوى الاقتناع ليتم السفر فوراً، بعكس «القاعدة» التي تمضي وقتاً في التدريب وبناء الخلايا الداخلية، ما يرفع نسبة الخطر والتخوف، بينما «داعش» يرجئ هذه الخطوة لاحقاً. حيوية الأهالي تكشف ضعف المؤسسات المحلية في المدينة، ومنها الدينية بشكل خاص، ومعها الأمنية أيضاً في أداء مهماتها، والأخطر أن تكون منعزلة عن البيئة الاجتماعية أو غير متواصلة معها، فلا تدرك هذا التحول الذي طرأ على شباب المنطقة.

أهمية مبادرة أهالي تمير أن هذه النشاطات يصعب الكشف عنها أمنياً، لأنها لا تقوم على شبكة عمل واتصالات وترتيبات، بل هي خطوة واحدة فقط، اقتناع فتذكرة سفر، وتبقى مصادر التحريض مجهولة، ما لم يتراجع الشاب ويعود للدلالة على المغررين به. من جهة أخرى، يتكرر المشهد في مدن أخرى مشابهة، من حيث التركيبة السكانية على الأقل، تشكل مصدراً ثرياً للتجنيد، لسهولة السيطرة على التجمعات الشبابية نتيجة المحدودية واشتراك الدوائر، ولو اقتدى أهالي هذه المدن بـ «المبادرة التميرية» لأحدثوا فرقاً كبيراً في معالجة هذه الظاهرة، وبرهنوا على معنى المشاركة الاجتماعية، وأن الأمن لا يخص السلطة فقط، بل هو هَمٌّ مشترك وقاعدة. تمير ذات التاريخ الفاعل تسجل نفسها مرة أخرى في قائمة الريادة، وتستحدث سلوكاً جديداً في الوعي والوطنية، لم تؤسسه الرسائل الإعلامية والبرامج الوطنية، بل هو أصل في الناس ويستند إلى تاريخ فاعل لا يمكن تجاهله.

امتدح الشاعر الكويتي سليمان الهويدي تمير وأهلها الذين استضافوه أثناء غزو العراق للكويت بقصيدة تعبّر بعض أبياتها عن الحال ذاته اليوم:

الراية البيضاء لكم ياهل تمير

الطيب والنوماس تستاهلونه

تستاهلون المدح في كل تعبير

ونشيد بالطيب الذي تفعلونه

صفوة ارجال مهذبين مناعير

اختاروا منزال العلا ينزلونه

خويهم يلقا معزّة وتقدير

واليا تقاعس بينهم يعرفونه

المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Jasser-AlJasser/4330915