د.منصور أنور حبيب
د.منصور أنور حبيب
اختصاصي طب الاسرة والصحة المهنية

دولة الابتكار

آراء

منذ الأزل والإنسان يعمل، سواء للقمة العيش أو لحياة أفضل. وبمرور الأيام والسنين تطورت الأمور، وظهرت منظومة المؤسسات والشركات بشكلها الحالي، وأصبح الفرد يعمل مع آخرين في مجموعات بعد أن كان يعمل وحيدا. هذه المنظومة أوجدت تحديات جديدة في طريقة تعامل الافراد في بيئة العمل، وخصوصا بعد ظهور السلم الوظيفي والمسميات الرنانة؛ من مدير ومسؤول ومرؤوس، فظهرت النظريات الإدارية والأساليب المختلفة، لتحفيز الفرد العامل واستخراج ما أودعه الله فيه من أفكار وقدرات تعود بالنفع على البشرية جمعاء.

من هذا المنطلق تعتبر نظرية التناغم الوظيفي (Employee Engagement) التي رأت النور عام 1993، من الوسائل المهمة التي ساعدت في دفع بيئات العمل المختلفة للتحليق إلى عالم الإبداع والابتكار، وجعلت الموظف هو العميل الأول والأهم. لكن ما هو التناغم الوظيفي؟ هو درجة الالتزام المهني والأخلاقي والعاطفي للموظف تجاه بيئة عمله، بغض النظر عن موقعه في السلم الوظيفي.. بمعنى آخر؛ مدى عشق الفرد لعمله! وقد يقول قائل؛ أليس الرضى الوظيفي هو نفس التناغم؟ هناك فرق. فلنأخذ المثال التالي: موظف (أ) يقوم بعمله اليومي على أكمل وج.

ويلتزم بساعات الحضور والانصراف فقط، أما الموظف (ب) فيعشق وظيفته وينجز معاملات العملاء بأسرع وقت بابتسامة كبيرة، ويبتكر أساليب جديدة في إنجاز المهام. فالموظف (أ) قد يكون راضيا، لكن ليس بالضرورة متناغما ومندمجا، بينما الموظف (ب) يحقق أعمق درجات الرضى، وهي التناغم في بيئة العمل.

كل ما ذكر لن يتحقق إذا لم تقم جهة العمل بتوفير الأدوات اللازمة والبيئة المثالية لجعل كل فرد عندها على شاكلة الموظف (ب).. على قول المثل “بقدر ما تعطي تأخذ”، فكلما أعطت المؤسسة أكثر ستجني المزيد من الإبداع والتألق والتناغم من موظفيها. وهنا سأطرح بعجالة بعض الأدوات السريعة التي يستخدمها الكثير من المؤسسات العالمية والمحلية في الدولة، لتقييم مستوى التناغم الوظيفي لدى الفرد تجاه مكان عمله..

ووضع الحلول لزيادتها، وهي مقتبسة من استبيان “غالوب” العالمي، ويكون مدى موافقة الموظف على العبارات المذكورة هو المقياس: “أنا أعلم ما هو المتوقع مني في عملي.. لدي الأدوات التي أحتاجها لأقوم بعملي بشكل صحيح.. لدي فرصة كل يوم لأقوم بعملي بأفضل شكل ممكن.. في الأسبوع الأخير حصلت على الثناء على عملي الجيد.. مديري، أو شخص آخر فى العمل، يهتم بأمري الشخصي..

هناك زميل في العمل يشجعني على التنمية الذاتية.. يُؤخذ برأيي في العمل.. مهمة وغرض شركتي يجعلني أشعر بأهمية وظيفتي.. زملائي في العمل ملتزمون بأداء عمل جيد.. أعز أصدقائي زميل لي في العمل.. في الـ6 أشهر الماضية تحدث أحد الزملاء معي عن تقدمي في العمل.. في العام الماضي كانت لدي فرص للتعلم والنمو في العمل”. جمل وعبارات قليلة في كلماتها، لكنها عظيمة الأثر متى ما تحققت بالشكل الصحيح على المؤسسة وأفرادها.

ومن المفاهيم الحديثة التي انتشرت بشكل ملموس لزيادة تناغم الموظفين مع جهات عملهم، مفهوم تعزيز الصحة في بيئة العمل. فالواحد منا يمضي معظم يومه في مكان العمل، وهي فرصة رائعة للاهتمام بصحة الموظفين ووقايتهم من شتى الأمراض والأعراض.

وهناك محاور رئيسية تستطيع إدارات الموارد البشرية التركيز عليها، مثل توفير الأكل الصحي، الحركة وممارسة اللياقة البدنية, مكافحة الأمراض المزمنة، وإدارة الضغوط النفسية الناتجة عن بيئة العمل، سواء كان عن طريق الفحوصات الدورية أو مسابقات رياضية أو تطعيمات الإنفلونزا السنوية.. الهدف من كل هذا هو موظف يتمتع بصحة وعافية. وغني عن التعريف أن الموظف الصحي يكون أكثر إنتاجية وعطاء لنفسه وللمؤسسة، وبالتالي أكثر تناغما.

لكن لماذا التركيز على وجود مستوى عالٍ من التناغم والاندماج بين الموظف وبيئة عمله؟ العاشق يفعل المستحيل لمعشوقته ويبدع ويتفنن في إظهار هذا العشق, وهكذا الموظف المتناغم, عشقه لعمله يجعله يفجر كل ما في داخله من طاقات وإمكانيات، لكي يبدع ويبتكر ما لم تره عين ولم تسمع به أذن. وهنا يخطر ببالي بعض الشركات العملاقة ذات المؤشر العالي جدا من التناغم الوظيفي، مثل “أبل” و”غوغل”، ونتائج هذا التناغم من ابتكارات قلبت كوكب الأرض رأسا على عقب!

وبما أن دولة الإمارات كانت سباقة في شتى المفاهيم، فقد قام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، حفظه الله، منذ أيام معدودة بافتتاح مركز محمد بن راشد للابتكار الحكومي، إيمانا من سموه بأن الابتكار والأفكار هي رأس المال الحقيقي للمستقبل، واضعا نصب عينيه هدفا وهو أن تكون الإمارات دولة الابتكار الأولى عالميا. إذن، دعونا ننطلق في رحلة التناغم مع وظائفنا، لكي تتكشف لنا دروب الابتكار في دولة العشق والإبداع!

المصدر: البيان
http://www.albayan.ae/opinions/articles/2014-09-12-1.2199954