محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

وهن القوة!

آراء

أعرف أن بعض الكُتاب العرب يميلون إلى لوم الولايات المتحدة، حتى على ضياع بقرة في جرود الجزائر (مثلا)، إلا أنني أميل لمناقشة الواقع، ولا أدعي بداية أن ما أراه هو «الحقيقة» المطلقة، فالحقائق الاجتماعية – السياسية غالبا نسبية.

فمن اجتماع جدة في صدر هذه الشهر (سبتمبر/ أيلول، 2014)، إلى اجتماع باريس في الأسبوع الثاني منه، مرورا بالجولة المكوكية للسيد جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة، بكل من أنقرة وبغداد والقاهرة، يبدو أن هناك «حركة» ما باتجاه احتواء الداء المتفشي الذي اسمه «الإرهاب»، لكن المتوجس يرى أن هناك فرقا بين «الحركة» و«وهم الحركة»، فقد اندلع تلاسن على الأرض بين القيادة في طهران والخارجية الأميركية، حول ما إذا كانت الدبلوماسية الأميركية قد طلبت (أو لم تطلب) مساعدة طهران في جهود القضاء على «داعش»! القيادة الأميركية استجابت للقول الإيراني بـ«لعم»، أي نعم طلبنا ولا لم نطلب في الوقت نفسه. للمراقب، هذا الرأي – بجانب أمور أخرى – يؤكد «وهم الحركة» لا جديتها، خاصة أن القوة الإيرانية الآن موجودة على أرض العراق وتحارب!.. وما التلاسن إلا للاستهلاك.

السؤال الأهم: هل «استدارت» الإدارة الأوبامية، بعد كل التجارب السابقة، خاصة التي واجهت بها الولايات المتحدة «عواصف الربيع العربي»، والتي كانت في مجملها عدم قدرة أو قل عجزا عن توجيه الأحداث، عدا عن التأثير فيها؟ وهل هذه الاستدارة حقيقية أم هي نصف استدارة؟ اعتقد البعض أن الحركة المكوكية الأخيرة للإدارة الأميركية هي «صحوة» بعد «غفلة»، إلا أن الشكوك ما زالت عالقة بشأن رغبة أو قدرة الولايات المتحدة على الفعل! بالتأكيد الإرهاب في الشرق الأوسط ليس جديدا على الإدارة الأميركية، فالإرهاب هو «سباق تتابع» في المنطقة، وليس «سباق مائة متر»، فالأخير له بداية ونهاية، لكن الأول كل جماعة تسلم «علم الركض» إلى الجماعة الأخرى، من «القاعدة» إلى «داعش»، مرورا بكل القوى «العصبوية المسلحة خارج إطار الدولة»، وتنمو تلك «العصبة المسلحة خارج إطار الدولة» في حالة تدهور قوة الدولة ونشوء حالة «فراغ» تشكل لهذه المجموعات ملاذا آمنا للنمو. فمن أفغانستان إلى لبنان مرورا بالعراق وسوريا وليبيا واليمن، هناك فراغ ما أدى إلى تدهور قوة الدولة (جزء منه بسبب خارجي، وآخر داخلي، قائم على فشل ذريع في فهم متطلبات العصر)، هذا الفراغ أنبت كل «الدواعش»، فالإرهاب «أمة واحدة» وليس أمتين، مهما كان لون العلم الذي يرفعه. الفراغ شجع بعض القوى الإقليمية على توسيع أو محاولة توسيع نفوذها، أو ما تعتقد أنه نفوذها، فساعدت الإرهاب أو مولته تحت شعارات براقة!

لا نعرف ما إذا كان ما نُشر من نتائج اجتماع «جدة – باريس» هو كل النتائج، أم بعضها، أم أن هناك اتفاقا خلف الأبواب المغلقة – لا يجوز الإفصاح عنه. الشكوك تعتري فكرة «اتفاق الأبواب المغلقة» لعدد من الأسباب؛ أولها أن الائتلاف المكون يحوي مشارب عدة، بعضها له علاقات وثيقة بقوى إقليمية، لا يمكن له الدخول في تعهدات خارج مصالحها.. وثانيا أن المسؤولين في الولايات المتحدة ما فتئوا يتحدثون عن «عدم مشاركة قوات أرضية»، لا من عندهم ولا من عند غيرهم، ويرددون ذلك بمناسبة ومن دون مناسبة، أما ثالثة الأثافي فهي أن «الإرهاب» له تفسيرات ومفاهيم عدة بين تلك الدول المجتمعة في باريس.

مظاهر انسحاب أو تراجع القوة الأميركية من على المسرح الدولي تمت مناقشتها بإسهاب بين كبار المفكرين الأميركيين بداية من بول كيندي «الترهل الأميركي» إلى ستيفن والت «نهاية العصور الأميركية»، وكان البديل المقترح بدلا من إهدار قوة أميركا المالية والعسكرية على «مغامرات» في الشرق الأوسط، التوجه إلى آسيا بأسواقها العظيمة واستقرارها النسبي! كان ذلك من الذرائع تبريرا للفشل الذي أصيبت به سياسات الولايات المتحدة، قصيرة النظر في كل القضايا التي تصدت لها، من أفغانستان إلى فلسطين، مرورا بالعراق ولبنان وأخيرا ليبيا واليمن!

قالت وزيرة من وزراء الخارجية الأميركية، في ما يشبه المزاح المسموم، في جلسة خاصة على هامش أحد المؤتمرات «نحن نتجه إلى الشرق الأقصى، ونستغني عن نفطكم، ولا يهمنا بعد ذلك كم من الضحايا يسقطون في صراعكم»، لم يكن ذلك مزاحا للبعض، فقد تُرجم في الموقف المتردد، بل والسلبي، من القضية السورية، رغم فداحة الأمر واستشراء القتل والتدمير، وملايين النازحين المعوزين! وعندما تهيأت فرصة دولية للتخلص من النظام بعد «استخدام الغاز السام المحرم» ضد مواطنين عُزّل، اكتفت الإدارة الأميركية من الغنيمة بالإياب: تدمير جزئي للمخزون، سرعان ما تبين أنه يمكن إنتاجه بسهولة ويسر!! سياسات قصيرة النظر ووليدة اللحظة، وخلط للمبادئ بالمصالح. لا يهمنا كثيرا النقاش في ما إذا كانت قوة الإمبراطورية الأميركية على خطى الإمبراطورية البريطانية في الأفول، ما يهم هو ألا يضع العرب بيضهم في السلة الأميركية المثقوبة، فتلك مخاطرة غير محسوبة، فحرب الإرهاب لمن يريد أن يتبصر هي إغلاق باب الدول المعطوبة التي يجد الإرهاب فيها مجالا للتنفس والازدهار. دون التوجه إلى تغيير نظام الأسد في سوريا، وترميم النظام العراقي بخلق قوة مركزية تتسع لكل المكونات دون تهميش ولا إقصاء، في ظل نظام عادل ومستقل، لن يكون هناك بديل عن هذا الإخفاق المتكرر والمزمن.

ضرب «داعش» في العراق هو فقط قطع للذيل، إن نجح فلن يكون له تأثير كبير على بقية الجسم، فالإرهاب مخلوق ينمو ذيله في وقت قصير.

من جهة أخرى فإن الألعاب النارية (استخدام طائرات دون طيار) لا تزيد عن الألعاب الاحتفالية، مبهجة وغير مؤثرة في الوقت نفسه، و«لا قوات على الأرض» من كثرة ترديدها تُسمع لدى الإرهابيين في كل مكان على أنها موسيقى عذبة. عجز الولايات المتحدة عن بلورة سياسة متوسطة وطويلة الأجل، بالاتفاق مع القوى صاحبة المصلحة في الاستقرار والنمو في المنطقة، هو ما ينتج عنه كل هذه الفوضى. لقد عجزت الإدارة الأميركية القائمة عن قراءة الأحداث كما هي على الأرض، ليس في منطقتنا وحدها ولكن في أكثر من مكان، مما أوصلها إلى التأثير السلبي في النظام العالمي، كما خلف انتكاسة لقدرتها على الفعل الجدي.

آخر الكلام:

رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأميركي مارتن ديمبسي يقرر في شهادته أمام الكونغرس بأنه في حال فشل خطة أوباما فلا بد من إرسال قوات برية إلى ساحة المعركة! أصوات متناقضة تسمع من أطراف مختلفة ولا أحد يعرف على وجه اليقين ما هي الخطة!

المصدر: الشرق الأوسط

http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=787721