د . حسن مدن
د . حسن مدن
كاتب بحريني

“أرى العواصم كلها زبداً”

آراء

“داعش” على بعد كيلومترات قليلة من بغداد، صنعاء في أيدي الحوثيين، طرابلس الغرب مستباحة من الميليشيات و”الزعران”، دمشق مطوقة من داخلها وخارجها بالآلة الحربية للنظام وبجحافل التكفيريين الآتين من كل أصقاع الدنيا . ولا أحد يعلم على أي عاصمة عربية سيأتي الدور .

كيف يحدث أن تستباح عواصم عربية بهذه السهولة واليسر، فلا تقوى الجيوش المجيشة المتخمة بالعتاد الذي أنفقت المليارات على شرائه، على مواجهة الزحف الآتي إليها من الأطراف، ويهرع الجنود إلى بيوتهم تاركين أسلحتهم في الثكنات والمعسكرات يستولي عليها الزاحفون الذين إن كان لهم من مشروع، فليس سوى مشروع التدمير والردة الحضارية الشاملة نحو جاهلية لن تُبقي ولن تذر .

من يصدق أن يكون هذا مآل الحواضر والمدن العربية العريقة التي صنعت الحداثة العربية، وكانت منطلق دعوات النهضة والتقدم وتحرير المرأة، ومراكز إشعاع الثقافة والتعليم والتفكير الحر، تصبح أسيرة لميليشيات وقوى مهووسة بالشبق الجنسي ومتعطشة للقتل والذبح وجزّ الرؤوس؟

كيف نصدق أن هذا يحدث في العواصم التي كانت، حتى عقود قليلة، تضيء بما هي عليه من نظافة وأناقة وتنسيق وذوق في شكل بنائها وفي تصميم شوارعها، والتي كانت مظهراً للحداثة وهي تمر بمخاضها العسير في مواجهة المحافظة والتزمت لأنها كانت تتكئ على قوة اجتماعية حقيقية صاعدة تغطي اهتماماتها ساحات واسعة من الاقتصاد والتعليم والثقافة والفن، وصولاً إلى الفكر نفسه الذي كان يتحلى بشجاعة يندر وجودها اليوم .

ثمة عقول بصيرة حذرت منذ زمن ليس بالقليل من أن الأجيال الجديدة من أبناء أحزمة الفقر حول العواصم والمدن العربية ستشكل وقوداً للحركات الاحتجاجية الرافضة، التي تفتقد إلى برامج التحديث الحقيقي، بعد أن أصبحت العواصم محاصرة بأحزمة الوافدين إليها، والذين وجدوا ملاذهم في التيارات الإسلاموية، الأكثر مقدرة على الاستقطاب، بحكم ما تتوافر فيه من دهاء وإمكانات مالية ضخمة .

لا تنشأ الظواهر الكبرى من فراغ، إنها تتكون في القاع، في الطبقات السفلى غير المرئية، وتنمو وتكبر وتتطور، ومع الوقت تنشأ لها عضلات قوية، وما جرى الاستخفاف به واستصغاره عقوداً طويلة، وربما تم الركون إليه كحليف ممكن، وفق الحسابات البراغماتية قصيرة النظر غدا غولاً يأكل الأخضر واليابس .

كأني بمحمود درويش كان يطلق نبوءته عن مستقبل قاتم، هاقد آنت لحظته، فإذا بالعواصم تتهاوى كالزبد: “وأبحث عن حدود أصابعي/ فأرى العواصم كلها زبدا” .

فأرى العواصم كلها زبدا . . .

المصدر: الخليج

http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/17105906-DABF-40B8-89CD-1709A40AB8E5