هيفاء المعشي
هيفاء المعشي
مديرة إدارة الدراسات الجيوسياسية في مركز "بحوث" - دبي

من يحكم صنعاء ومن سيحكم عدن؟

آراء

من داخل ساحة العروض في خور مكسر داخل مدينة عدن أعلن شلال شايع أحد قيادي مكونات الحراك السلمي الجنوبي وسط الحشود الكثيفة التي قدمت من جميع المحافظات الجنوبية للاحتفال بذكرى ثورة 14 أكتوبر، أن الجنوب العربي سيعود كما كان دولة مستقلة ولو اقتضى الأمر إعلان الكفاح المسلح.

رسالة القائد الجنوبي القادم من الضالع ألهبت الحشود ولاقت تجاوبا كبيراً  خصوصا وأن مشاهد مذبحة الضالع التي ذهب ضحيتها 20 مواطناً جنوبياً لم تغب عن أذهانهم. الضحايا قُتلوا من قبل اللواء 33 مدرع وهم مجتمعين في مخيم عزاء نصب لشهداء سبقوهم وتم قتلهم بنفس السلاح ومن قبل نفس الأشخاص.

ما حصل في عدن لا يمكن وصفه بالمشهد المكرر لمشاهد احتفالات سابقة قادها الحراك الجنوبي في السنوات الماضية لكونه حدث في خضم تغيرات سياسية حادة في شمال اليمن يقودها الحكام الجدد غير المتوجين في صنعاء: الحوثيون. فهل اتفق كل من حراكيي عدن وحوثيي صنعاء على تغيير الخارطة السياسية لليمن لإعادة الإمامة في الشمال وإحياء دولة الجنوب من جديد؟

مراقبة التحركات والتصريحات من قبل  القيادات السياسية لدى الطرفين  تشير لوجود رسائل مختلفة ومتضاربة تؤكد بأن الاتفاق الذي زُعم بأنه قائم ضمنياً بين الطرفين قبل سيطرة الحوثيين على صنعاء لا وجود له. بل أن الرسائل المتضاربة الصادرة من الطرفين بشأن توصيف الوضع في الجنوب تشير لإمكانية وقوع تصادم في المواقف السياسية قد يقود لمواجهة سياسية وقد يمتد مستقبلاً لمواجهات عسكرية.

فقد أكدت الحشود الجنوبية التي اجتمعت في عيد الثورة ال51 في عدن أن مطلبها الأساسي هو الانفصال ونيل الاستقلال للجنوب بينما استمرت المنابر الإعلامية الحوثية في التأكيد بأن المجتمعين يريدون حل للقضية الجنوبية وأن الحوثيين هم الأجدر لمنحهم ذلك دون التطرق لمضمون هذا الحل.

الغموض الذي يحيط بموقف أنصار الله إزاء ما يحدث في الجنوب في هذا الوقت تحديدا قد يشير إلى أن الحوثيين لا يريدون التصدي للقضية الجنوبية حتى ينهون ما بدأوه في صنعاء ومد سيطرتهم على بقية المحافظات الشمالية وترسيخ مكانتهم كحكام جدد.

والتلاعب بفكرة المؤامرة في الجنوب قد يكون جزء من حبكة سياسية جديدة تستخدم من أنصار الله للقضاء كليا على فكرة انفصال الجنوب.

والحوثيون قد يجدون ثغرات واضحة في الحراك السياسي الجنوبي ممثلة في غياب القيادة الموحدة والثابتة في قيادة المقاومة الجنوبية وتحقيق مطالب الانفصال. حيث أن تشتت مكونات الحراك وتعدد قياداتها داخل الوطن وخارجه لعبت دورا سلبياً ولا تزال في إضعاف الدور السياسي الداخلي والخارجي للحراك الجنوبي وانعكس ذلك على مطالب الجنوبيين في حق تقرير المصير. والحديث قد يبدو مبكراً عن حدود قدرة الجنوبيين في إدارة  دولتهم في حال تم الانفصال إلا أن تحليل العلاقات الداخلية بين القوى الجنوبية يشير بأن التصدعات السياسية التي خلفها صراع حرب 1986 لا تزال تسبب بعض الاهتزازات للبناء الجنوبي الصامد بين الحين والآخر.

اختلف المراقبون داخل اليمن وخارجها في طرح التوصيف المناسب للأزمة اليمنية بعد دخول الحوثيين صنعاء فمنهم من وصفها بالتمرد الحوثي ومنهم من وصفها بامتداد لثورة 2011 وهناك من رأى أنها تصحيح لمسار الثورة الأخيرة كونها جمعت بين الحوثيين وغير الحوثيين وتمسكت بمطالب شعبية عامة. ولكن امتداد الزحف الحوثي على مواقع داخل صنعاء وخارجها  يؤكد أن الحوثيين لديهم اليد الطولىداخل صنعاء وأماكن أخرى في اليمن، لكنهم لا يسيطرون على كل اليمن!

بعد اجتماع فرقاء الأزمة اليمنية في قصر الرئاسة في الحادي والعشرين من سبتمبر الماضي للتوقيع على ما أسموه اتفاق السلم والشراكة الوطنية في أجواء تسودها الشك والريبة ووجوه تعلوها القلق والخوف من المجهول القادم استكانت صنعاء فيما يشبه الغفلة لتصحو بعد مرور عشرين يوما على صراخ وعويل وقتلى وجرحى بالعشرات وعلى مرأى ومسمع من سكان القصر الرئاسي الذي شهد توقيع الاتفاق الجديد.

الاتفاق الجديد لم يطابق القواعد المتعارف عليها في صياغة الاتفاقيات، فلم يستغرق وقتاً طويلاً سواء في تحديد بنوده أو في التوقيع عليه ولكن بالنسبة لأطراف الأزمة فقد استغرقت عملية التوقيع دهراً. فكل منهم كان ولا يزال يترصد للآخر ويتربص به إما لإنهاء الأزمة الدائرة التي وصلت إلى حد الاشتباكات العسكرية أو للنجاة بحياته أو للتصالح مع القادمين الجدد والبقاء في سدة الحكم.

وقد انعكس ذلك على مضمون الاتفاق الذي لم يتضمن سوى الخطوط العريضة لما أراده الحوثيون ولما أملاه زعيمهم على مُعديه الأمميين وغير الأمميين. ولكنه لم يتضمن أجندة تفصيلية واستراتيجية محكمة لمستقبل اليمن في الشهور القادمة.

غياب الأجندة السياسية والاستراتيجية للاتفاق ليس بالأمر الباعث على الصدمة سواء بالنسبة للنخب السياسية اليمنية أو بالنسبة للحوثيين الذين افتقرت برامجهم السياسية لمثل هذه الأجندة على الرغم من أهميتها كعنصر أساسي في استقرار الوضع السياسي داخل صنعاء بعد السيطرة عليها. فهل سبب ذلك يعود لاستباق الحوثيين لخططهم السياسية والعسكرية والدخول لصنعاء دون أن يتسلحوا بأُطر برامجية نظرية وتطبيقية تمكنهم من إحكام سيطرتهم على الأوضاع؟

كان من المتوقع أن يكمل الحوثيون سيطرتهم على مناطق الجوف وحجة ويعملون على تأمين الحدود الشرقية والجنوبية لصنعاء قبل الدخول إليها حتى لا يكونوا عرضة لمخاطر محتملة من محافظات أخرى لا تزال خارج نطاق سيطرتهم. وقد حذر عبد الملك الحوثي في خطابه الأول بعد توقيع اتفاق الشراكة الوطنية من بوادر فتنة محتملة في معسكرات البيضاء ومأرب. وهو ما وقع فعليا في انفجارات البيضاء الأخيرة ووجهت أصابع الاتهام فيها للقاعدة. وهذه الفتنة قد تبرز في محافظات أخرى خلال المرحلة القادمة. كما أن غياب برنامج سياسي واستراتيجي واضح للحوثيين يحدد علاقاتهم مع الفرقاء السياسيين ومع مؤسسات الدولة في ظل سيطرتهم السياسية والعسكرية على صنعاء قد يشكل نقطة ضعف في ملف قيادتهم.

وعلى صعيد المحافظات الجنوبية فإن ملف القضية الجنوبية قد يشكل إحدى العقبات الاساسية ومحك اختبار لقياس حنكة ومصداقية القيادة الجديدة. فالجنوب لم يكن يمثل تهديداً للحوثيين قبل دخول صنعاء ولكن إحكام الحوثيين السيطرة على العاصمة مع تجاهل فتح ملف القضية في اتفاق الشراكة أثار حفيظة الجنوبيين وفتح باباً كان موارباً في الفترة الماضية مما قد يفاقم من الأخطار المحدقة بالحوثيين ويثقل من عبأ مهامهم الجديدة كحكام جدد حتى وإن كانوا غير مُتَوجين.

التسرع في صياغة وثيقة السلم والشراكة الوطنية قد عكس دلالاته أيضاً لدى طرف السلطة حيث لم تمر 24 ساعة على التوقيع حتى صرح الرئيس اليمني عبد ربه هادي في خطاب موجه للشعب ان هناك مؤامرة تحاك على الدولة وأنه سيعيد الأمور إلى نصابها. مما يهز من قيمة الوثيقة ويفقدها مصداقيتها. كما أن التأخير في تعيين رئيس الوزراء وإصرار كل طرف على مرشحه: يطرح سؤال هام للمرحلة القادمة في العلاقة بين النظام القائم والحوثيين: هل الحوثيون رفقاء حكم وعمل سياسي أم خصوم وأعداء للنظام القائم؟

وبعد وقوع المجزرة في ساحة التحرير والتي تزامنت مع مقتل تسعة عشر جندياً في الغبر في حضرموت وآخرين في شبوة ازدادت الهوة اتساعاً بين الأطراف السياسية واتضح أن استمرار الأزمة في اليمن لا يتعلق فقط بخلاف حول رئيس الوزراء أو اختيار أعضاء الحكومة الجديدة.

يبدو أن غياب الرؤية السياسية أوصل جميع الأطراف السياسية للوضع الحالي والمتضرر الرئيسي في هذه الأزمة المتفاقمة هو الشعب اليمني سواء في شمال اليمن أو جنوبه. إن الغياب في الرؤية السياسية والتسرع في اتخاذ القرارات السياسية تعد سمة سلبية للنخب الحاكمة داخل اليمن. وهذا الفراغ الاستراتيجي والبرامجي على الصعيدين السياسي والاقتصادي هو ما ساهم في نقل اليمن بشطريه من فشل إلى آخر خلال العقدين الماضيين. وسُلمت دفة القيادة لقيادات فردية تفتقر في أحيان كثيرة للمنهجية الفكرية والمستقبلية لإصلاح أوضاع اليمن بدءاً من قرار الوحدة الذي عده الكثيرون قراراً متسرعاً فرض وحدة اندماجية لم تكن اليمن مؤهلة لها حيث جمعت بين شطرين متنافرين أيديولوجياً وإدارياً واقتصادياً لذا تكالبت الخلافات بين الشطرين بعد التوقيع مباشرة. وانطلقت حرب 94 التي تضمنت محاولة أخرى متسرعة وغير مدروسة للم الشمل في توقيع وثيقة العهد والاتفاق في الأردن التي تحولت لوثيقة مجمدة، وانتهى الأمر بخروج طرف أساسي من معادلة الوحدة. وبعد ثورة 2011  مثلت وثيقة مخرجات الحوار الوطني وثيقة جديدة لعهد جديد ولكنها افتقرت لإجماع وطني حقيقي ولدراسات متأنية وواقعية في تطبيق بنودها سواء ما يخص اختيار الرئيس أو اختيار الحكومة أو مخطط الأقاليم. لذا فوثيقة السلم والشراكة الوطنية قد مثلت للكثيرين الأمل الأخير  للشعب اليمني في البحث عن مخرج لأزماتهم المستمرة.

الأجواء التي تخيم على صنعاء وعلى محافظات أخرى عديدة داخل اليمن لا تزال أجواء حرب وكل طرف لا يزال واضعا يده على الزناد وهذا ما دفع الحوثيين للتردد في تنفيذ بنود الملحق الأمني لوثيقة السلم والشراكة الوطنية المتضمن رفع مخيمات المعتصمين من صنعاء ونزع السلاح والانسحاب من عمران والجوف ومأرب. كما أن عدد الانفجارات التي أعقبت التوقيع على الوثيقة في نواحي صنعاء واستهدافها لدوريات حوثية والتي كان آخرها الانفجار العنيف الذي هز شارع التحرير يؤكد بما لا يقبل الشك أن الأطراف المناوئة للحوثيين لم يرفعوا الراية البيضاء. لكن الخطر الأكبر يكمن في محاولة كل طرف سواء الحوثيين أو حزب الإصلاح المطارد أو النظام الحاكم حشد ألوية عسكرية وميلشيات قبلية موالية له في المحافظات الشمالية أو الجنوبية أو الوسطى واستغلالها في الصراع مما يهدد بنقل الصراع والمواجهات العسكرية وأشكال العنف المختلفة من العاصمة إلى بقية المحافظات اليمنية.

الرؤية المتعمقة للواقع اليمني تشير لكون كل طرف سياسي يحاول استغلال الأوراق السياسية المتاحة له في الساحة وتحريك الوضع لصالحه وتقديم المصالح الفئوية على مصالح الشعب باستغلال نظرية المؤامرات أو إقحام العامل الديني أو التخويف بإرهاب القاعدة. مما يعني أن اليمن مقبلة على تغيرات سياسية عويصة.

الاضطرابات في اليمن غريبة في توجهاتها وانتقالاتها التي تميزها عن دول الربيع العربي. اليمن في حاجة لإصلاح سياسي جذري وهذا لن يتحقق بين عشية وضحاها ولن يقوده فصيل سياسي دون آخر ولن ينفذ واقعياً دون بناء الثقة السياسية بين أطراف العمل السياسي وطرح أجندة سياسية واضحة وشفافة ومنظمة لتحقيق مصالح الشعب سواء في شمال اليمن أو في جنوبه.

مترجماً عن غلف نيوز – 20 أكتوبر 2014