هل بدأ التنوير في النهضة العربية من ثُقب إبرة، كما يقول الكاتب رفعت السعيد؟ أم أن المعركة دارت بين من يشدّون العربة إلى الأمام، وبين من يضعون الهراوات في دواليبها؟

وهل أصبح قدرنا أن نعود إلى أول السطر بعد كل قرن؟ فما قاله رواد النهضة العربية خصوصاً هؤلاء الذين لاذوا بمصر هرباً من مطاردة الباب العالي لو وجد مجالات حيوية لترجمته إلى واقع، لكان المشهد العربي على غير ما هو الآن، لكن النهضة تعرضت لإجهاض مبكر وفي الرحم .

وما أشبه الليلة بالبارحة، فما قطعه العرب المعاصرون من مسافات نحو العصرنة والتحديث واللحاق بالعالم الأكثر تقدماً، أصبح الآن في خطر، وفي مهب عواصف رملية تحجب الآفاق وتسدها، إذاً هي حرب مستمرة بين العقل ومضاداته، خصوصاً تلك التي تتأسس على تجهيل مؤدلج ومبرمج، بهدف تجريف الوعي وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لكن المستقبل ليس محايداً إزاء هذه الحرب، فهو حليف استراتيجي لمن راهنوا على العقل ضد الخرافة، وعلى التنوير مقابل الإظلام، لأن مصدّات التقدم والتنوير لو أفلحت منذ محاكم التفتيش لبقي البشر يراوحون هناك، عند تخوم عصر الانحطاط .

وما بدأ من ثقب إبرة لا بد أن ينتهي إلى الأبواب المشرعة كلها، لأن التنوير شأن كل المشروعات الإنسانية والنهضوية الكبرى، يتنامى ويفرز مفاعيله رغماً عن كل محاولات الإعاقة، وذلك قانون أو ناموس له قوة الفيزياء، لكن التاريخ ماكر أحياناً، كما يصفه الفيلسوف هيغل، بحيث يحدث في الطريق ما لم يُحسب له حساب، وتنفجر مكبوتات من مختلف الأنماط لتعمّ الفوضى، وتصاب البوصلات كلها بالعطب، وقد حدث هذا مراراً، لكن الإرادة الخلاقة جعلته مجرد جملة عابرة ومعترضة في كتاب التاريخ، إذ سرعان ما استدعى العقل كل احتياطياته وانتصر .

والتنوير ليس مجرد وصف لكل ما يبشّر بالانعتاق من سلاسل التطرف والغلو، إن له فلسفته وفقهه وسياقاته التاريخية، ولا يطلق جزافاً على كل تيار يُبشّر بالحداثة، لهذا لم يطلق اسمه سوى بضع مرات في التاريخ، وفي لحظات فارقة، وقدر تعلقه بنا كعرب استمر من منتصف القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين، ثم ارتطم بجدران أعاقت تقدّمه .

وما تخوضه الآن من حرب ضد الأدلجة العمياء وعواصف التطرف المجنونة هو استئناف لحرب التنوير التي لا تقاس نتائجها بمعركة واحدة .

المصدر: الخليج الإماراتية
http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/5426CFCD-62B4-4DED-B41C-B38C650C9F80