محمد القنيبط
محمد القنيبط
كاتب و اكاديمي سعودي

المعاش التقاعدي ليس إرثاً أو ضماناً اجتماعياً

آراء

يدور الحديث كثيراً عن الحقوق التقاعدية، وما يدفعه الموظف من راتبه الشهري إلى المؤسسة العامة للتقاعد طوال سنين خدمته في الدولة (أو للتأمينات الاجتماعية في القطاع الخاص). ويتركَّز الحديث في معظم الأحيان على المعاش التقاعدي الذي يحصل عليه الموظف الحكومي بعد إحالته للتقاعد، ويزداد التركيز في هذا السياق على ما ستتحصل عليه زوجته وأبناؤه بعد وفاته. ويمكن تلخيص الأفكار حول موضوع المعاش التقاعدي في سؤال لم تُحسَم إجابته، ألا وهو: هل المعاش التقاعدي إرثاً أو ضماناً اقتصادياً (وليس اجتماعياً) للمتقاعد قبل وفاته (وللمستحقين من عائلته بعد وفاته) يُوفِّر له ولهم العيش الكريم في ظل ما اعتاد عليه قبل تقاعده

 وقد كتبتُ عن هذا الموضوع مقالة قديمة بمجلة «اليمامة» في 21-7-1420هـ، في زاوية «أكاديميات» بعنوان: «المعاش التقاعدي: ضمان اجتماعي أم إرث؟». ولكثرة الحديث هذه الأيام عن نظام التقاعد والحسميات التقاعدية، رأيت مناسبة إعادة كتابة تلك المقالة بعد تحديثها بأرقام واقعية من سِلَّم رواتب الموظفين العامّ الجديد بتاريخ 25-6-1432هـ بعد زيادات الرواتب الحكومية، مع الأخذ بما يدور حالياً عن توجه الدولة لرفع السن التقاعدي من 60 إلى 62 سنة.

  كم دَفَعتْ !؟

بالفعل، هذا سؤال مُحيِّر يمكن إعادة صياغته كالآتي: كم المبالغ التي دَفَعَها الموظف الحكومي للمؤسسة العامة للتقاعد أثناء عمله؟ هذه المبالغ أو الحسميات التقاعدية تمثل نسبة 9 في المئة تؤخذ شهرياً من أساس راتب الموظف طوال فترة خدمته، تُضيف إليها الدولة النسبة نفسها 9في المئة، ليكون إجمالي ما يدخل شهرياً في حساب الموظف لدى المؤسسة العامة للتقاعد هو 18 في المئة من راتبه الأساسي طوال سنوات عمله في الحكومة، ومن ثم فإنَّ السؤال المُهم: كم هو المبلغ الذي يَتَجمَّع للموظف في المؤسسة العامة للتقاعد عند تقاعده؟
سؤال يصعب الإجابة عنه بصفة التعميم، لسبب بسيط يتمثل في أنَّ موظفي الدولة (أو القطاع الخاص) ليسوا جميعهم على مرتبة واحدة، ومن ثم يصعب الخروج برقم واحد لعموم الموظفين. لذلك سنأخذ مثالاً بسيطاً لموَظَّف حكومي، تحت الفرضيات الآتية:
– الموظف يحمل شهادة جامعية، وتوظف وعمره 22 سنة على المرتبة السادسة والدرجة الأولى.
– يَتَرقَّى الموظف إلى المرتبة التي تليها بعد ست سنوات.
– يتقاعد الموظف نظامياً عند عمر 62 سنة وخدمة 40 سنة.
– عوائد استثمارات المؤسسة العامة للتقاعد تبلغ 7 في المئة سنوياً، وهذا عائد استثماري متفائل جداً.
استناداً إلى هذه الفرضيات المتفائلة جداً، فإن الجدول المُرفَق يوضح أنَّ الموظف الحكومي سيتقاعد بقوة النظام (بعد التعديل المتوقع) بعمر 62 سنة وخدمة 40 سنة، وهو على المرتبة الـ14 والدرجة الثامنة براتب أساسي 21915 ريالاً شهرياً. ومن المؤكد أن الكثير من موظفي الحكومة يعلمون أنَّ عدداً قليلاً جداً سيصل إلى المرتبة الـ14، وهو ما يؤكد شدة تفاؤل هذه الحسابات.
ولكن كم سيكون المعاش التقاعدي لهذا الموظف الحكومي عند التقاعد بقوة النظام بعمر 62 سنة، وخدمة 40 سنة بحسب فرضياتنا السابقة؟
المعادلة الشهيرة لحساب المعاش التقاعدي تقول إن المعاش التقاعدي للموظف يساوي المبلغ الناتج من ضرب أساس آخر راتب تقاضاه عند التقاعد في حاصل قسمة مدة خدمته بالأشهر على 480، وفي حال المثال والفرضيات السابقة، حيث سيتقاعد الموظف على المرتبة الـ14 والدرجة الـ8 سيكون راتبه التقاعدي كالآتي:
المعاش التقاعدي = 21915 × (480 ÷ 480) = 21915 ريالاً شهرياً. أي سيستلم هذا الموظف الذي خَدَمَ 40 سنة معاشاً تقاعدياً يساوي كامل أساس آخر راتب كان يتقاضاه قبل تقاعده، ولكن من دون حسميات تقاعدية أو بدل نقل، كما كان يحدث وهو على رأس العمل. وبالطريقة نفسها نجد أن الموظف سيتقاضى 50 في المئة أو 0.625 في المئة من آخر راتب له حين يتقاعد مبكراً بخدمة 20 سنة أو 25 سنة، على الترتيب.

  تقاعد مُبَكِّر أم متأخِّر

ماذا لو حاولنا مقارنة تقاعد الموظف بقوة النظام عند عمر 62 سنة وخدمة 40 سنة، مع خيار التقاعد المبكر بخدمة 20 أو 25 سنة؟
إجابةً على هذا التساؤل، وبعد تقديم الشكر الجزيل للابن الأستاذ حسام بن صالح القاضي على توليه عملية التأكد من صحة الحسابات المالية (استثمار واستزاف الحسميات التقاعدية بنسبة 7 في المئة تراكمية شهرية)، فإنَّ الجدول المُرفَق يُوضِّح أنَّ إجمالي الحسميات التقاعدية التي دفعها الموَظَّف ومساهمة الدولة (9 في المئة) في حسابه لدى المؤسسة العامة للتقاعد، ستصل إلى 1.150.913 و543.478 و392.656 ريالاً، وترتفع هذه الأرقام بعد استثمار هذه المبالغ في مشاريع أو محافظ استثمارية تدرُّ عائداً سنوياً 7 في المئة إلى 4.703.761 و1.287.875 و782.110 ريالات عند التقاعد بخدمة 40 أو 25 أو 20 سنة، على الترتيب.

 من الرابح.. الموظف أم الدولة؟

بعد مقارنة أرقام الحسميات التقاعدية والمعاش التقاعدي في الخيارات الثلاثة فإنَّ السؤال المطروح الآن: من هو الرابح في نظام التقاعد المدني الحالي: الدولة أم الموظف المتقاعد؟
إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في حساب عدد السنوات التي سيستنزف خلالها الموظف المتقاعد مبالغ الحسميات التقاعدية بعد تقاعده. وفي ظل الخيارات الثلاثة من خدمة الموظف، وبعد حساب مبالغ الحسميات التقاعدية مع استثمارها بنسبة 7 في المئة حتى إحالة الموظف للتقاعد نجد أن الموظف سيستنزف جميع مبالغ الحسميات التقاعدية وعوائدها الاستثمارية خلال 18 سنة بعد خدمة 40 سنة، وخلال 11.6 سنة بعد تقاعدة مُبكراً بخدمة 25 سنة، وخلال 10.4 سنة بعد تقاعده مُبكراً بخدمة 20 سنة. بمعنى آخر أنه عند تقاعد الموظف الحكومي بخدمة 40 سنة وعمر 62 سنة (بحسب التعديل المقترح على نظام التقاعد الحكومي)، فسيستنزف جميع مبالغ الحسميات التقاعدية التي دفعها مع استثماراتها عندما يصل عمره إلى 80 سنة، في حين يستنزفها عندما يصل عمره إلى 58.6 سنة إذا تقاعد مبكراً بخدمة 25 سنة، مقارنة بعمر 52.4 سنة إذا تقاعد مبكراً بخدمة 20 سنة.
بمعنى ثالث أن أية مبالغ يتسملها الموظف المتقاعد بعد هذا السن من عمره (80 سنة عند خدمة 40 سنة، أو 58.6 سنة عند خدمة 25 سنة، أو 52.4 سنة عند خدمة 20 سنة) ستكون من الحسميات التقاعدية لموظفين آخرين أو من مساهمة الدولة، وليس من المبالغ التي حُسِمَت عليه كتقاعد أثناء فترة عمله حتى مع استثمارها بنسبة 7 في المئة سنوياً، وهي نسبة استثمار متفائلة جداً جداً. وهنا تتضح صحة التحذيرات التي أطلقها مسؤولو المؤسسة العامة للتقاعد بشأن خطورة الوضع المالي للمؤسسة.
ومن ثم نتساءل مع القارئ الفاضل مرة أخرى: من الرابح من نظام التقاعد المدني الحالي.. المؤسسة العامة للتقاعد أم الموظف المتقاعد؟ بل، من الرابح من التقاعد المُبكِّر: المؤسسة العامة للتقاعد أم الموظف؟

  الزوجة مظلومة

من جهة أخرى، فإني اتفق تماماً مع الدعوة إلى رفع نصيب الزوجة في المعاش التقاعدي وعدم مساواتها بالأبناء الرُّضَّع، حيث جاء في النظام: (إذا توفي صاحب المعاش فيقرر للمستحقين عنه معاش بقدر المعاش المستحق له، يوزع بينهم بالتساوي إذا كان عددهم ثلاثة فأكثر، فإذا كان عددهم اثنين يخصص لهما ٧٥ في المئة المعاش أما إذا كان المستفيد واحداً فيخصص له ٥٠ في المئة من المعاش). فالزوجة هي النصف الآخر من معادلة المعاش التقاعدي، لذلك فهي تستحق نصف المعاش التقاعدي على الأقل، بغض النظر عن عدد الأطفال، طالما أنها لم تتزوج أو تتوظف في وظيفة راتبها أكثر من مخصصها التقاعدي، أما أن تُساوى الأم برضيع أو أكثر توفي عنهم صاحب المعاش التقاعدي، فتلك قسمة ضيزى.

  إرث أم ضمان اقتصادي اجتماعي؟

مما سبق تظهر على السطح المشكلة التي ينتج منها التساؤل الذي أخذ عنوان هذه المقالة: المعاش التقاعدي ليس ضماناً اجتماعياً أو إرثاً؟
ذلك أن الكثير ممن تطرقوا لنظام التقاعد السعودي وكتبوا عنه في الصحافة أو أخضعوه لنقاشات عابرة أو مستفيضة، يركزون دائماً وأبداً على النقطة الأساسية: لماذا لا يُعامَل المعاش التقاعدي كالإرث؟ ولماذا لا يؤول المعاش التقاعدي للورثة إلى أن تقوم الساعة ويرث الله الأرض ومن عليها؟
لا أدري كيف سيُصِّنف القارئ الفاضل هذه المقالة وكاتبها؟ هل هو من البيروقراطيين الذين يهتمون بمصلحة القوي (المؤسسة العامة للتقاعد) ويُهمِّشون الضعيف (الموظف) أم من الباحثين عن المشكلات أم أن موضوع هذه المقالة والتحليل هو «مساحة» تبحث عن قضية، كما وَصَفَ أحد القراء الأفاضل طيِّبة الذِّكر زاوية «أكاديميات» بمجلة اليمامة؟
من وجهة نظري الشخصية فإنَّ المعاش التقاعدي ليس إرثاً وليس ضماناً اجتماعياً، فإن كان إرثاً، فيجب أن يتوقف صرف المعاش التقاعدي للموظف المتقاعد عند انتهاء آخر ريال للموظف في ذمة المؤسسة العامة للتقاعد، وإن كان ضماناً اجتماعياً فيجب أن يخضع للتقلبات المتزامنة مع تقلبات موازنة الدولة وما تخصصه للضمان الاجتماعي.
بمعنى آخر أن المعاش التقاعدي ليس بإرث، وأقرب ما يكون إلى الضمان الاقتصادي (وليس الاجتماعي) منه للإرث، ومن ثم فليس من حق أي من الورثة أو العُصبة الحصول على أي جزء منه، باستثناء الزوجة والأبناء والبنات حتى توظفهم أو انتهائهم من الدراسة، كما هو معمول به حالياً.  لذلك، فالمطلوب ليس تعديل نظام التقاعد الحكومي بالمملكة، بل الاستقلالية الكاملة للمؤسسة العامة للتقاعد عن وزارة المالية؛ وليس هذا فحسب، بل يجب أن يكون ارتباط جهاز المؤسسة العامة للتقاعد برئيس مجلس الوزراء مباشرة، لما لهذا الجهاز الحيوي من أهمية وحساسية تُحتِّم إبعاده عن تَسلُّط صاحب المعالي هذا أو ذاك. وليس هذا فحسب، بل يجب أن يكون استثمار أموال التقاعد بطرق متحفظة جداً بعيداً عن المضاربة، كما هي الحال في معظم الدول المتقدمة. فالأموال والحسميات التقاعدية ليست أموال الموظفين حديثي التوظيف، بل أموال الأجيال السابقة من الموظفين الذين شربوا الماء كَدَرَاً، ويجب منع أي جهة حكومية من أن تتسلَّط عليها وتستنزفها لسد عجز موازنة أو سوء إدارة وتخطيط اقتصادي.

 الخُلاصة

– نظام التقاعد الحكومي السعودي من أفضل أنظمة التقاعد في العالم، بل أفضل من أنظمة التقاعد في دول العالم الغربي، إذ يستحيل للموظف الحكومي هناك أن يحصل على كامل راتبه عند تقاعده، ناهيك عن دفعه ضرائب دخل على معاشه التقاعدي.
– من غير المنطق أن تُجبَر المؤسسة العامة للتقاعد على دفع «بدل غلاء/تضخم» لأصحاب المعاشات التقاعدية بسبب التضخم؛ لأنها مؤسسة أشبه ما تكون بمؤسسة مالية ائتمانية أودع الموظف عندها أموالاً لتحفظها وتستثمرها، وتضمن إعادتها له شهرياً على شكل معاش تقاعدي، وفقاً لما يستحق بناءً على نظامها.
– إذا رأت الدولة أهمية دفع المؤسسة العامة للتقاعد بدل تضخم/غلاء للمستفيدين من المعاش التقاعدي فيجب عليها دفع ما يقابل هذا البدل للمؤسسة حتى لا تُفلِّس.
– يجب تضييق العمل بخيار التقاعد المُبكِّر، والذي لا محالة سيؤدي إلى إفلاس المؤسسة العامة للتقاعد خلال سنوات قليلة. وكما رأينا في الجدول، فالموظف المتقاعد مبكراً بخدمة 25 أو 20 سنة سيستنزف جميع الحسميات التقاعدية مع عوائدها الاستثمارية خلال فترة لا تتجاوز 12 أو 11 سنة، على الترتيب. وهذا يعني أن الموظفين المتقاعدين مُبكِّراً سيتسببون في إفلاس المؤسسة العامة للتقاعد إذا زاد عددهم بدرجة كبيرة.
– يجب تمديد خدمة الموظف الحكومي ليس إلى 62 سنة، بل حتى 65 سنة؛ لضمان استمرار دفع الحسميات التقاعدية وتأخير استنزافها من المؤسسة العامة للتقاعد قدر الإمكان، فالدول الغربية تعاني مشكلات كبيرة من زيادة المستحقات (المعاش) التقاعدية يقابلها انخفاض الحسميات التقاعدية بسبب تدني النمو السكاني وعدد الموظفين على رأس العمل.
– ختاماً، من يعتقد أن نظام التقاعد الحكومي ظالِم ومُجحِف، فليقرأ المادتين التاليتين من نظام التقاعد المدني، ويقارنها بأنظمة التقاعد في الدول المتقدمة جداً: (والمستحقون عن صاحب المعاش هم: الزوج أو الزوجة، والأم، الأب، والابن، والبنت، وابن وبنت الابن الذي توفي في حياة صاحب المعاش والأخ والأخت والجد والجدة. وفيما عدا الزوجة والإبن والبنت، فيُشتَرَط لاستحقاق الشخص أن يكون معتمداً في إعالته على صاحب المعاش عند وفاته… اعتباراً من تاريخ عقد الزواج يُوقَف معاش الزوجة والبنت وبنت الابن والأخت إذا تزوجن والأم إذا تزوجت من غير والد المتوفى، ويعاد الاستحقاق إلى صاحبته إذا طُلِّقَت أو تَرَمَّلَت؛ فإذا كانت المستحقة التي طُلِّقَت متزوجة وقت وفاة صاحب المعاش فيعاد توزيع المعاش بافتراض استحقاقها وقت الوفاة).

المصدر: الحياة

http://alhayat.com/Opinion/mohamed-alqnaibt/5380942/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D9%8A-%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D8%A5%D8%B1%D8%AB%D8%A7%D9%8B-%D8%A3%D9%88-%D8%B6%D9%85%D8%A7%D9%86%D8%A7%D9%8B-%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D9%8B