274 ألف منشأة صغيرة خارج الخدمة

آراء

تبين إحصاءات كل من وزارة التجارة والصناعة ووزارة العمل المتعلقة بعدد منشآت القطاع الخاص، التي وصل عددها الإجمالي حتى نهاية 2013 إلى نحو 1.78 مليون منشأة، يعمل فيها 9.68 مليون عامل (1.47 مليون عامل سعودي، 8.21 مليون عامل غير سعودي)، أقول تبين المحصلة النهائية لإحصاءات عامي 2012 – 2013 الصادرة عن الوزارتين المتعلقة بتلك المنشآت، أن عدد المنشآت الجديدة للفترة وصل إلى 247.04 ألف منشأة وفقا لبيانات وزارة التجارة والصناعة، فيما بلغ عدد المنشآت التي توقف نشاطها وطردها من النشاط الاقتصادي والتجاري للفترة نفسها نحو 274.0 ألف منشأة صغيرة جدا وصغيرة، وفقاً لتصنيفها حسب أعداد العمالة فيها. شكلت المنشآت الصغيرة جدا (أقل من 10 عمال) نحو 90.0 في المائة من إجمالي تلك المنشآت المتوقفة، فيما بلغت نسبة الصغيرة (من 10 عمّال حتى 49 عاملا) نحو 10.0 في المائة، ويعني هذا على افتراض أن المنشآت الصغيرة جداً يمتلكها ويعمل فيها مواطن سعودي واحد فقط، وأن المنشآت الصغيرة يمتلكها ويعمل فيها على أقل تقدير مواطنان اثنان، لتصبح النتيجة النهائية لتصفية نشاطات تلك المنشآت فقد أكثر من 301.3 ألف مواطن لمصدر دخله وعمله!

طالما انطلقت سهام الاتهام إلى تلك المنشآت الصغرى بأنها الوكر الخفي الذي تستوطنه جرائم التستر التجاري، وكما أن هذا الاتهام يحتمل درجة من الصحة، فهو أيضاً يحتمل درجة مماثلة من الخطأ، والعبرة والدرس الممكن أخذه من تفشي جرائم التستر التجاري، ليس في وجود وزيادة أعداد المنشآت الصغرى، بقدر ما أنه قد يكون من مصادر أو ثغرات أخرى؛ كضعف أنظمة الإشراف والرقابة، أو قدرة شرائح من العمالة الوافدة على تجاوز الأنظمة والتشريعات المعمول بها محليا، والقفز عليها دون عناء، كما قد تأتي شرور التستر في أخطر أشكالها من الشركات والمؤسسات التي تم الترخيص لها طوال العقد الماضي تحت مظلّة نظام الاستثمار الأجنبي، كل تلك المتغيرات يمكن أن تتحوّل إلى مصادر دسمة لتغذية جريمة التستر التجاري.

إليك هذه الحقائق من جانب آخر للكشف عن دقة ما أتحدث عنه من عدم دقته؛ ما حدث خلال فترة 2012 – 2013 أن أعداد الاستقدام ارتفعتْ إلى أعلى مستوياتها التاريخية، بلغ مجموع التأشيرات الصادرة عن وزارة العمل خلال هذه الفترة الوجيزة أكثر من 4.4 مليون تأشيرة عمل، مع التذكير بأن هذه الزيادة تزامنت مع توقف نشاط 274 ألف منشأة صغرى (تعطل نحو 301.3 ألف مواطن)، ولا يقف الأمر عند هذا الحد! بل لقد ارتفع مجموع الحوالات للخارج خلال هذه الفترة إلى أكثر من 273.2 مليار ريال، مقابل مجموع أجور سنوية للعمالة الوافدة في القطاع الخاص للفترة نفسها بلغ نحو 198.9 مليار ريال، وبخصم نحو ثلث تلك الأجور السنوية كمصروفات استهلاكية محليا، وتمكن تلك العمالة من تحويل ثلثي الأجور تلك للخارج، فإن المتاح للتحويل لن يتجاوز سقف 139.2 مليار ريال، وبخصمه من مجموع الحوالات للخارج للعامين 2012 – 2013 البالغ 273.2 مليار ريال، سينتج لديك زيادة لافتة بلغ مجموعها 134.0 مليار ريال! برأيك؛ من أين أتت تلك الزيادة الهائلة في الحوالات للخارج مقارنة بالأجور المتاحة للتحويل بعد خصم مصروفات المعيشة محليا؟ ما المصادر الأخرى المحتملة غير أنشطة التستر التجاري لتمويل تلك الزيادة في الحوالات مقارنةً بالأجور السنوية؟

حتى الآن لم يصدر أي بيانات حول أعداد تلك المنشآت وتطور أعدادها خلال 2014، إلا أن ما توافر حتى تاريخه في خصوص الحوالات للخارج، يشير إلى أن الزيادة في حجمها خلال عام 2014 جاءت أعلى أيضا من الأعوام السابقة بما فيها عاما 2012 و2013، وكما يبدو أن بيانات المنشآت التجارية والصناعية بعد نشرها لن تكون بعيدة عما جرى خلال الأعوام الأخيرة، ما يعني أن السياسات والإجراءات لم تتغير، وأنها لم تهتم أو تلتفت إلى هذه الآثار والنتائج البالغة الأهمية!

تشكل تلك المنشآت الصغرى عصب النشاط الاقتصادي في أي اقتصاد، كما تشكل الوعاء الأكبر من الوظائف، تراوح نسبها على مستوى العدد وحجم التوظيف بين 80 و90 في المائة، بينما لدينا رغم أن نسبة أعداد تلك المنشآت شكلت نحو 97.6 في المائة من إجمالي عدد منشآت القطاع الخاص، لم تتجاوز نسبة العاملين فيها (سعوديون، غير سعوديين) إلى إجمالي العمالة في كل تلك المنشآت الصغرى نسبة 42.2 في المائة، مقابل نسبة العمالة في المنشآت الأكبر البالغة 57.8 في المائة من إجمالي العمالة (نسبة عدد منشآتها إلى الإجمالي 2.4 في المائة فقط).

كما هو معلوم لدى الجميع أن الاقتصاد الوطني يعتمد بصورة أكبر من غيرها في تحصيل أغلب دخله على عوائد النفط، ولهذا لا نرى اعتمادا كبيرا أو اهتماما كافيا بإنتاجية المنشآت العاملة في القطاع الخاص، التي تحوّلت عبر الزمن الممتد لعدة عقود إلى أكبر مصادر استقدام العمالة الوافدة، وتحولت إلى أكبر المستوردة للخدمات والبضائع والسلع المصنّعة في الخارج (تجاوزت فاتورتها الإجمالية 680 مليار ريال عام 2013)، وتحولت أيضا إلى أكبر معتمد على الإنفاق الحكومي عبر المناقصات عوضا عن ضرورة اعتمادها على الإنتاج والتصنيع وتطوير مصادر دخلها التشغيلية، لتغدو صورتها النهائية إما أنها تقتات على مناقصات الحكومة، وإما تقتات على الاستيراد بالجملة من الخارج والبيع بالتجزئة في الداخل، وهيكلة كهذه للقطاع الخاص لا تتطلب استقدام عمالة من الخارج تعلو مؤهلاتها عن الشهادة الابتدائية، وفي أحس الأحوال الشهادة المتوسطة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل لقد تحولت منشآت القطاع الخاص وتحديداً العملاقة منها إلى أكبر مستهلك لموارد الطاقة الناضبة محليا، وأكبر مستفيد من فاتورة الدعم الحكومي على الطاقة والغذاء (يتجاوز الدعم الحكومي 0.5 تريليون ريال).

بحالة كهذه الحالة تقف عليها كبرى منشآت القطاع الخاص، لا تتساءل أمامها: لماذا هي ليست في حاجة إلى توظيف المواطنين والمواطنات الحاملين لمؤهلات تتجاوز الشهادة الثانوية، وصولا للشهادات الجامعية؟ ولماذا لا تعمل على زيادة تنويع قاعدتها الإنتاجية بما يعزز من مصادر دخلها، وتعزيز تنافسيتها محليا وخارجيا؟ وما الذي يدعوها إلى التخلي والتنازل عن التكسب من الدعم الحكومي المفرط على الطاقة والغذاء؟ هذه أسئلة لن يجدي طرحها، ولا مناقشتها، ولا مراجعتها في ضوء السياسات الاقتصادية الجامدة منذ أربعة عقود أو أكثر، والحديث يشمل حتى الأجهزة الحكومية المعنية بهذا الشأن! فلا جدوى من كل هذا النقاش دون العودة بخطوات جادة لتغيير السياسات والبرامج المنظمة للاقتصاد الوطني بتفرعاته كافة.

إن مجرد إطفاء جذوة 274 ألف منشأة صغيرة، لن ينتج لدينا أي خروج من الوضع الراهن الذي يقف عليه القطاع الخاص بالدرجة الأولى، والاقتصاد الوطني بصورة أعم! بقدر ما أنه يعني زيادة في أعداد العاطلين، وترسيخ للتشوهات المشار إليها. والله ولي التوفيق.

المصدر: الإقتصادية
http://www.aleqt.com/2014/11/26/article_909513.html