دوران الأرض.. وحالات «الاغتباط بالجهل»!

آراء

طوال تاريخ البشرية الحديث، أخذت كل حالة اكتشاف علمية، أو اختراق نظري لمسلمة قديمة صيغة الانشقاق عن القناعات المثبتة، والتي أريد لها أن تكون أبدية الصواب. قناعات تم توارثها حيال الكون والطبيعة، المناخ وأصل الحياة، تكوين الأرض التي نعيش عليها وشكلها، ومستقر هذا الفضاء وغموضه وألغازه. استجابت الفلسفات اليونانية لطبيعة هذا المجال، تحدث طاليس عن أصل الماء في التكوين، وطرح المذهب الذري في التفسير لدى ديموقريطس، وأخذ هيراقليطس من النار والصيرورة أرضا بنى عليها تصوراته لوجود الكون، وسواها من الإحالات والمقاربات. بالطبع هذه طروحات قديمة وتأملية بدأت منذ المائة الخامسة قبل الميلاد، بيد أنها كانت شاحذة للأذهان التي تلتها، وامتد التأثير مع تغيرات الحالة البشرية بعد حالات التمرد مرت محاولات حثيثة تمركزت في أوروبا طوال القرون من الخامس عشر وإلى يومنا هذا، هناك ضربات تلقتها القناعات التقليدية على يد غاليليو وكوبرنيكس وديدرو وهولباخ وصولا إلى أسبينوزا وكانط ومن تلاهم على ما هو مطروح في الكتب الكلاسيكية حول تاريخ الحضارة الغربية وقصص الخروج نحو الأنوار سواء لدى ول ديورانت أو هولغين أو ماريو انفليزي، أو سواها من الأسفار.

كانت الإشكالية الكبرى التي تخلصت منها أوروبا تدريجيا حال العلاقة بين «العلم» وبين «الدين»؛ فالأول متحول أما الدين فثابت. العلوم الطبيعية تتحول باستمرار، بل كل تاريخ العلم – كما يعبر الفيلسوف غستون باشلار – هو «تاريخ أخطاء»، والنظرية التي تطرح سرعان ما تواجه تعديلات عليها على مر القرون، فنظريات العلوم هي إمكانات وطاقات ضمن المتاح من التقدم التكنولوجي والعلمي، والعلم بطبيعته سائل متحرك، يتقدم ويتطور، وتدحض النظرية اللاحقة – كل أو بعض – النظرية السابقة، والواقع أن مشكل العلاقة بين العلم والدين طرحت لدى ابن رشد في «فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» وإن كانت ضمن طرح طبيعة علاقة الدين بكل ما يتصل بالمجتمع ومنه الفلسفة والتأويل، وكذلك طرحت لدى الإمام الشاطبي في تنزيه النص الديني عن النظرية العلمية وذلك في معرض كلامه حول الإعجاز العلمي، أما المجال الصوفي فهو الجاعل من الدين عرفانا واتصالا بالمعاني السامية بين الإنسان وربه، لكن لم تكن هذه المحاولات كافية لتجعل التمييز بين المجالين واقعا يمكنه أن يؤثر في مسارات الخطاب الديني أو التعليمي أو الجمعي.

أثرت العلاقة المتوترة بين المسلمين والغرب إلى تأسيس ما يعرف بـ«فكر الأزمة» والذي يبنى كل الإنتاج الآيديولوجي الكفاحي النضالي المطروح على مناكفة الغرب، أو الغيرة منه، أو الحديث عن «سرقة الغرب» للتنوير الإسلامي على طريقة المقولة (المنسوبة) إلى محمد عبده حين قال عن الغرب: «رأيت إسلاما بلا مسلمين» أو في الحالة (النستالوجية – الشوق والحنين) لدى رفاعة الطهطاوي الذي رشحه الشيخ حسن العطار إلى محمد علي بأن يجعله مشرفا على رحلة التلاميذ إلى باريس في فرنسا ليكون المشرف عليهم ويرعاهم ويسجل أفعالهم، فكتب: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وبلغت الذروة في خطاب الأزمة مع خطابات جماعة الإخوان التأسيسية لدى أبي الأعلى المودودي، أو في كتاب عنوانه بالغ النرجسية لدى أبو الحسن الندوي بكتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» ممهورا بمقدمة كتبها سيد قطب.

شكل خطاب الأزمة عائقا أمام فك الاشتباك بين العلم والدين وهو شرط بالطبع لتحرير المجالات العلمية والدفع بالإنسان في مدنيته وواقعه ليكون مفكرا لا يشعر بالتورط وهو يتناول المجال العلمي، حتى الآن وبعد مرور ستة قرون على بدء أوروبا بتفكيك العلاقة بين العلم والدين ونجاحها الكبير في ذلك لا تزال الجامعات الإسلامية العربية تشعر الطالب في المجالات الطبيعية والعلمية بـ«التورط» أثناء المطالعة في نظريات صارت عادية بل من التاريخ أصلا مثل نظريات كوبرنيكس أو غاليليو أو داروين أو نيوتن، هذا فضلا عن النظريات الجديدة. هناك خوف رهيب أشار إليه برتراند رسل لدى بعض المجتمعات المنغلقة في تصوراتها الدينية تجاه العلم وذلك في كتبه الكثيرة منها «الفلسفة وقضايا الحياة» وكتاب «العلم والدين»، وراسل من المهمومين بهذا الجانب.

كل ذلك القلق والاشتباك غير المحلول، مكن الخطابات الساذجة الشعبية من طرح حالات من التجهيل المنظم في المنابر والمنتديات، وقد ضحك العقلاء في الشرق والغرب على مقولة تتعلق بدوران الأرض أطلقها أحدهم، وهذا القائل ليس إلا ضحية تاريخ من الممانعة بوجه الغرب بسبب خطابات الأزمة والممانعة والمقاومة والتي تنأى بالنفس عن كل جديد ومفيد، الأمر الذي زرع حالة مزرية يصفها بشكل بالغ الدلالة الأستاذ إبراهيم البليهي بحالة «الاغتباط بالجهل»!

نعم هناك اغتباط وفرح وبهجة بالجهل، هناك أناس يحتفلون كل يوم بجهلهم، يعتبرون الجهل إنجازا كبيرا ومصدر فخر يجب الاحتفاظ به، وهذا يتجاوز الجاهل المعذور الذي لا يلام بسبب انشغاله بأمور حياته ويومه ولقمة عيشه. بات الكثير من المنابر محطات لبث وتعليم الجهل والتدريب عليه، وطرح سبل المحافظة عليه وحراسته والسهر على بقائه.
حاولت الفلسفة أن تؤسس لحالات التمييز، وهذا هدف فلسفي، لأن التمييز يحصن الإنسان من الحماقة، وينقل فوكو عن أستاذه نيتشه أن «مهمة الفلسفة محاربة الحماقة».
 
المصدر: الشرق الأوسط
http://aawsat.com/home/article/298546