سطام المقرن
سطام المقرن
خبير، قطاع الرقابة على الأداء الحكومي ومدرب في ديوان المراقبة العامة والأمانة العامة لدول الخليج والمجموعة العربية لأجهزة الرقابة العليا (آربوساي). - مدرب مشارك في الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين وعضو في لجنة تطوير النظام المحاسبي في المملكة ، لدي العديد من البحوث والدراسات المنشورة في مجال المحاسبة والرقابة.

الأداء الحكومي

آراء

القرارات الملكية الكريمة التي أصدرها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله – وما سبقها من قرارات – في مجملها تهدف إلى تحقيق الكفاءة وتحسين الأداء المؤسسي للجهات الحكومية، وهي بمثابة منعطف تاريخي ومهم في مسيرة التنمية بالمملكة، وهي كفيلة بإحداث نقلة مهمة وكبيرة في الجهاز الإداري للدولة، وجعله أكثر فاعلية، حيث تسعى هذه القرارات إلى إعادة هيكلة بعض أجهزة الدولة وفقاً لرؤية استراتيجية متطورة، وإرادة حاسمة للتخلص من الترهل الإداري والتضخم الهيكلي في بعض الوزارات والمصالح الحكومية.
ولكي نفهم بشكل عميق حيثيات القرارات الملكية، وخاصة فيما يتعلق بتأثيرها على تطوير واقع الإدارة الحكومية في المملكة، من الضروري أن نمر على جذور تكوين الإدارة العامة أولاً، لكي نستطيع تلمس أسباب المشكلات التي تعاني منها، ومن ثم الحلول التي طرحتها القرارات الملكية الأخيرة.
عندما وحد المملكة المؤسس الملك عبدالعزيز – رحمه الله – كانت الإدارة المحلية تتمثل في صورة بسيطة، فكل منطقة كانت تحكم عن طريق أمير يرتبط رأساً بالملك، يتبعه أمراء فرعيون في المدن التابعة لمنطقته، وكان هناك ثلاثة مسؤولين في كل مدينة يتولون الوظائف الإدارية، وهم: الأمير، وهو الحاكم الإداري بالنسبة للمنطقة أو المدينة والقرى المحيطة بها، والقاضي: وهو مسؤول عن الجوانب الدينية في المدينة، ومأمور بيت المال: وهو المسؤول المالي في المدينة (الزكاة، توزيع المخصصات).
ولكن في الحجاز فقد كانت الحال مختلفة بسبب انفتاحها على العالم الإسلامي حيث توجد فيها إدارات للقضاء والأوقاف والبلديات والمالية والصحة والشرطة، وقد أسس الملك عبدالعزيز المجلس الأهلي للإشراف على الإدارات الحكومية، وقد كان الطابع المركزي هو النمط الغالب في إدارات مختلف الأقاليم لمقتضيات مرحلة التأسيس، والتي أنشأ خلال هذه الفترة (6) وزارات مركزية، وهي (الخارجية والداخلية والمالية، الدفاع، والصحة والمواصلات).
ومن مكة المكرمة صدرت أول تنظيمات ونظم إدارية عامة مثل التعليمات الأساسية ومجلس الشورى ومجلس الوكلاء والمجالس المحلية، ثم تم الانتقال بشكل أوسع في تكوين الإدارة المركزية بإنشاء مجلس الوزراء عام 1373، حيث وضعت كل الأجهزة الحكومية تحت إشراف جهاز واحد على مستوى المملكة.
ومنذ ذلك الوقت بدأ حجم الجهاز الحكومي ومهماته تتزايد بشكل متسارع، وأدى هذا التوسع إلى تحمل الإدارة الحكومية والعاملين مسؤوليات كبيرة وجديدة، حيث ارتفعت إيرادات الدولة المالية من إنتاج النفط، كذلك التوسع في الخدمات المقدمة للمواطنين، وهذا التوسع الهيكلي إضافة إلى التباعد المكاني بين المناطق والمركز أدى إلى ظهور بعض المشكلات الإدارية انعكست في فشل بعض المسؤولين في بعض الجهات الحكومية في إدارة وتنفيذ الخطط والمشاريع التنموية الاقتصادية والاجتماعية.
ومن أسباب عجز الإدارة الحكومية عن سرعة الاستجابة للمتطلبات الجديدة الناتجة عن مسؤوليتها، توسع القاعدة الإدارية لتحكم وتدير كل أقاليمها، كذلك عدم وجود قاعدة تعليمية يمكن الحصول منها على قوى عاملة مؤهلة، لذا تمت الاستعانة بالخبرات الدولية مثل الصندوق الدولي، وخبراء الأمم المتحدة وخبراء مؤسسة فورد، فصدر كثير من الأنظمة التي تهدف إلى تحسين الأداء وزيادة الفاعلية الإدارية.
بعد ذلك بدأت الإدارة الحكومية تتحول من الإدارة المركزية إلى إدارة التنمية، ومن أبرز ملامح هذه المرحلة: صدور الخطط الخمسية للدولة، استكمال إنشاء أجهزة التنمية الإدارية، كما صاحب هذه المرحلة زيادة في عدد السكان بنسب عالية ومتسارعة، وزيادة الطلب على الخدمات العامة.
وبالرغم من مرور زمن طويل على مرحلة “إدارة التنمية” وتطور الإدارة كماً وكيفاً وضخامة الأعمال التنفيذية بالمناطق، بدأت الإدارة العامة تعاني من الجمود والركود، فبدأت تظهر مشكلات تعثر المشاريع الحكومية بالإضافة إلى تضخم الهيكل الإداري في بعض الجهات الحكومية، وتدني جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وظهور بعض مظاهر الفساد المالي والإداري.
وفي هذا الصدد يشير كثير من الدراسات والأبحاث المتعلقة بعلم الإدارة في المملكة إلى وجود مركزية شديدة في الهياكل الإدارية تمتاز بطول خطوط السلطة بين المستويات الإدارية المختلفة نتج عنها ضعف الرقابة ووجود رؤساء متسلطين يصاحبهم مديرون تابعون وضعفاء.
فواقع القيادة الإدارية في بعض الجهات الحكومية تحكمه الفردية لا المؤسساتية، بالإضافة إلى بقاء المسؤولين مدة طويلة في مراكزهم رغم وجود تنظيم أقرته السلطات العليا تحدد بموجبه المدة التي يجب أن يبقى فيها المسؤولون في أعمالهم والتمديد لهم لمدة مماثلة لمقتضيات المصلحة العامة.
ولهذا نشأت مراكز قوى في نظم إدارية غامضة ومتداخلة سمحت بوجود فئة تستفيد من هذا الضعف لتحقيق أهدافها الشخصية في ظل صعوبة محاسبتها لأنها إما أن تعمل في ظل قيادة إدارية تعمل باسمها وتحميها، أو من خلال تقديم خدمات لذوي النفوذ.
وعلى هذا الأساس، فإذا كانت الأهداف غامضة، والاستراتيجيات والسياسات الإدارية مبنية على الرغبات الشخصية للبيروقراطيين، بالإضافة إلى ضعف البناء التنظيمي في بعض الجهات الحكومية بما فيه من تضخم وازدواجية وعدم وضوح الصلاحيات والمسؤوليات، فإن انتقال التكنولوجيا الإدارية من لوائح وإجراءات عمل ونظم اتصالات وتقارير، تصبح غير ممكنة لعدم توفر الجهاز القادر على نقلها وتطبيقها وفهمها.
ولهذا كانت القرارات الملكية الأخيرة تهدف إلى إحداث تغيير شامل في مختلف قطاعات الدولة من خلال إعادة هيكلتها وتقليص التضخم الإداري من خلال دمج بعض القطاعات وإلغاء البعض الآخر، وضخ الدماء الشابة لتمثل قيادات إدارية جديدة، بما يسمح لها بالحصول على تنظيم إداري تنفيذي قادر على تحمل المسؤولية في تقديم خدمات ذات جودة عالية للمواطن والمقيم، ومساندة فاعلة للعمليات التنموية.
حفظ الله قائد هذه البلاد، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد الأمير محمد بن نايف، وولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

المصدر: الوطن أون لاين