علي عبيد
علي عبيد
كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة

من يدفع أجرة الزمار؟

آراء

يذكّرني مقال فهمي هويدي الذي نشره قبل أيام في جريدة «الشروق» المصرية، تحت عنوان «حروب أبوظبي»، منتقداً الجهود التي تبذلها «دولة الإمارات العربية المتحدة» في مكافحة الإرهاب والتطرف، يذكرني هذا المقال غير المستغرَب من كاتب كفهمي هويدي بالمثل الإنجليزي المعروف «من يدفع أجرة الزمار يختر اللحن».

وهو المثل نفسه الذي اقتبست منه الكاتبة الإنجليزية «فرنسيس ستونر سوندرز» عنوان كتابها الذي قدمت فيه وصفاً دقيقاً للطرق والأساليب التي تستخدمها المخابرات المركزية الأميركية في اختراق وبسط نفوذها على المنظمات الإنسانية، والفعاليات الثقافية، وفصّلت فيه لماذا وكيف تقوم الوكالة برعاية مؤتمرات ومعارض، وتنظيم حفلات موسيقية، وندوات ولقاءات ثقافية وفكرية، وتنشر وتترجم وتروِّج للعديد من المثقفين والكتاب الذين يسوّقون للسياسات الأميركية.

رب قائل يقول: وما هي مصلحة المخابرات المركزية الأميركية في دعم كتّاب يهاجمون أصدقاءها وحلفاءها في محاربة الإرهاب، وفقاً للنظرة التقليدية السائدة حول العلاقة التي تربط الولايات المتحدة الأميركية بدول الخليج العربي؟ هنا أقف أمام المقولة الشهيرة لثعلب السياسة الأميركية، وزير خارجيتها الأسبق «هنري كيسنجر» الذي يقول: «على أعداء أميركا أن يخشوا أميركا، لكن على أصدقائها أن يخشوها أكثر».

وهي العبارة التي ختم بها الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود رسالته التي نشرها في موقع «إيلاف» الإلكتروني تحت عنوان «طبق الأصل ثانية»، مقدِّماً من خلالها قراءةً حول الاتفاق النووي الذي وقّعه الرئيس الأميركي «باراك أوباما» مع إيران، مقيّماً ومحللاً الاتفاق من واقع خبرة جمعها على مدى 23 عاماً من التعامل مع رؤساء أميركيين، خلال فترة عمله سفيراً للمملكة العربية السعودية في الولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى شغله منصب مستشار الأمن القومي لقادة بلاده، ورئاسته للاستخبارات السعودية، ما مكنه من الاطلاع مباشرة على قرارات قيادة المملكة، ومن الخروج بالتحليل الذي قدمه، وفقاً لما جاء في رسالة الأمير التي لقيت ردود فعل متباينة من جهات عدة، كان أبرزها وصف أحد كبار المستشارين في إدارة الرئيس الأميركي «باراك أوباما» للأمير بأنه قادم من زمن آخر ومن عالم آخر، وأنه متعاطف مع حزب سياسي آخر في الولايات المتحدة، في إشارة منه إلى الحزب الجمهوري!

لماذا نربط بين مقال فهمي هويدي المدافع عن «الإخوان المسلمين» الذين كانت وما زالت الولايات المتحدة الأميركية تأخذ موقفاً إيجابياً منهم، وبين المثل الإنجليزي الذي استنبطت منه الكاتبة الإنجليزية «فرنسيس ستونر سوندرز» عنوان كتابها الكاشف لأساليب المخابرات المركزية الأميركية، وبين مقولة وزير الخارجية الأميركي الأسبق «هنري كيسنجر» التي استشهد بها الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز في رسالته التي يبدو أنها لم تأت على هوى إدارة الرئيس الأميركي «باراك حسين أوباما»؟

ربما يبدو المشهد هذه الأيام ضبابياً إلى الدرجة التي تجعل الرؤية أصعب على الخبراء والمحللين السياسيين، ناهيك عن الناس العاديين. وربما تبدو الأجوبة صعبة مع اقتراب نهاية العام الخامس من الفوضى التي تعم المنطقة العربية، وهي فوضى لعبت فيها أصابع الإسلام السياسي دوراً، ولعبت فيها أصابع أطراف خارجية مستفيدة منها دوراً، ولم تكن الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها خارج اللعبة منذ الاحتلال الأميركي للعراق وتغيير نظام الحكم فيه، وتسليمه لقمة سائغة للنفوذ الإيراني الذي أصبح يسيطر عليه ويدير دفة الحكم فيه، فالولايات المتحدة الأميركية هي اللاعب الأكبر في المنطقة، شئنا أم أبينا.

وإذا كان لعب الصغار محدود الأثر، فإن لعب الكبار يحدد مصائر شعوب ويغير خرائط دول، ويؤسس تحالفات ويلغي تحالفات. فهل تبدو المنطقة على شفير تغيير شبيه بالتغيير الذي يحدث عادة بعد الحروب العالمية الكبرى، وسقوط الممالك القديمة ونهوض الممالك الجديدة، مثلما حدث عبر مراحل التاريخ المختلفة، التي نقرأ عنها في كتب التاريخ، ونشعر بأننا نعيش واحدة منها؟

تبدو الأسئلة هنا أكبر مما يستوعبه العقل، وتبدو الإجابات أعمق من أن تكون سريعة وتلقائية، لكن الشواهد كلها تقول إن الإجابة الأقرب إلى المنطق هي «نعم». وهذه الإجابة تطرح أسئلة كثيرة حول سيناريوهات المرحلة المقبلة، وكيف يمكن أن نستعد لها، وكيف نميز أصدقاءنا من أعدائنا، وكيف نحمي أنفسنا من الطوفان الذي يضرب المنطقة بشدة. ونحن حين نطرح هذه الأسئلة لا نريد أن نرسم صورة سوداوية للمستقبل، لكن تجارب من سبقنا تقول إن من لا يستفد من الماضي يخسر الحاضر والمستقبل، ونحن لا نريد أن نخسر حاضرنا، ولا مستقبلنا بالتأكيد.

إن الذين يطرحون أفكاراً على غرار الأفكار التي طرحها فهمي هويدي في مقاله الذي تطل من بين سطوره ملامح دافعي أجرة الزمار، ويحاولون أن يظهروا أنهم أبرياء، هم أبعد ما يكونون عن البراءة، لأنهم يعزفون اللحن الذي يريد أن يسمعه من يدفع الأجرة، والدافعون هذه الأيام لم يعودوا مستترين، فمن يسمع الألحان التي تُعزَف في المنطقة ويرى من ينتشي لسماعها يستطيع أن يحدد إلى أي اتجاه يوجه أصابع الاتهام، وأن يعرف من يدفع للزمار، حتى لو حاول هؤلاء الدافعون أن يستتروا خلف أقنعة غليظة، وأن يلبسوا مسوح الرهبان، ليقنعونا بحسن نياتهم ونبل مقاصدهم.

وإذا كنا لم نتعلم دروساً تنفعنا في قادم أيامنا، من سقوط بغداد واحتلال العراق وما جرى بعده من أحداث، فإننا لن نتعلم أبداً، مهما سقط من عواصم واحتُل من بلدان، ومهما قرأنا من كتب السابقين واللاحقين، من اليوم إلى يوم الدين.

المصدر: البيان