محمد المزيني
محمد المزيني
كاتب وروائي سعودي

أزمة الخليج في مواجهة الواقع المر

آراء

بعيداً عن التكهنات والتحليلات الواعية وغير الواعية والسيناريوهات المركبة من التطلعات والمخاوف لما سيسفر عنه الاتفاق النووي الإيراني ومجموعة 5+ 1، وقريباً من استشعار دول الخليج لحقيقة وجودها بُعيد هذا الاتفاق، الذي كشف رصيدها الحقيقي في ميزان القوى العالمية، ونظرتها الواقعية لها، فعلى دول الخليج أن تبدأ مرحلة جديدة تعيد بها اعتبارها لنفسها، بتلمس مشكلاتها وأزماتها غير القابلة للتهاون أو الانتظار، لأن مطالبتها أميركا بتغيير نهجها السياسي الانقلابي الجديد تجاه إيران لن تجدي شيئاً، ولغة الحسرة المطبوعة على خطابها السياسي ليست حلاً، فواقع عالمنا العربي المشتعل بالأحداث والتقلبات على كل المستويات والأصعدة وإيران التي لعبت بقذارة وقبح في مواقع مختلفة من جسد عالمنا العربي لا يقبل بأدنى استرخاء فج في التعاطي والطرح، لذلك تبقى الفرص الديبلوماسية قليلة جداً بعدما تحددت الاتجاهات، وانكشفت النيات.
يجب أن نعترف أولاً بأن دول الخليج بلا استثناء تعاني من أزمات حقيقية، أزمتها الأولى تتمثل بردود أفعالها السريعة، فإيران التي تمكنت أخيراً من إحداث هذا الشق من خلال تحقيق نصر ديبلوماسي في مفاوضتها قبل أن يكون إنجازاً نووياً، تقدم دروساً مهمة على دول الخليج استيعابها، منها أنها قد كسرت ببعد النظر وضبط النفس قاعدة المستحيل عبر حراك سياسي ممنهج وثابت ليس لردود الأفعال فيه مكان، مدفوعة بتحمل المسؤولية كاملة بلا ملل لتنفيذ أجندتها، مدعومة بقدرتها على المراوغة والصمود دون تقديم تنازلات تحبط مساعيها، ما أدى في النهاية إلى دفع الولايات المتحدة الأميركية (الشيطان الأكبر) مرغمة للجلوس على طاولة مفاوضاتها، وأسهم في تحقيق هذا الانتصار الكاسح مجلس الشورى الإيراني تحت إدارة علي لاريجاني بما بين يديه من صلاحيات تخوله، للمصادقة على المواثيق والعقود والمعاهدات والاتفاقيات الدولية داعماً، وبناء على هذه المسؤوليات الكاملة التي يحظى بها من خلال تسلسل هرمي، ليس من بينها تمرير قرارات أحادية الرؤية نافذة القرار، استطاع تحقيق المستحيل أو على الأقل صعب المنال بعيد التحقيق.. الشعب الإيراني وتقسيماته الداخلية يتماشى مع كل هذه التحولات على رغم العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه التي كبَّدت الاقتصاد الإيرانيّ خسائرَ فادحة، وكادت أن تؤدي إلى شل الإنتاج الصناعي وتسريح عمال المصانع الثقيلة الكبرى. اليوم الإيرانيون يتنفسون الصعداء بعدما تحقق لهم هذا الانتصار الذي سيغذي خزينة الدولة الإيرانية بـ 150 بليون دولار، أزمة دول الخليج الثانية تكمن في نظرتها للحلفاء بوضعهم في خانة الحلفاء الأبديين، فلم يستشعر أسطورية هذه النظرة التي تشبه إلى حد كبير الخل الوفي المستحيل حتى تلقى الصفعة حامية من الأميركي حليف الأمس عقب إبرام الاتفاق النووي مع إيران التي تنتظر قرار المصادقة النهائية ليستشعر مرارة المهانة الكبرى، محاولاً التنفيس عنها بلغة عشوائية إعلامياً وديبلوماسياً، لتبدو هذه الأزمة للوهلة الأولى صدمة نفسية أكثر من كونها واقعاً مشروطاً يمكن التعامل معه بطرق مختلفة. الأزمة الثالثة انسحابها تحت لعبة المناورة المذهبية حتى أخذ الصراع الإيراني الخليجي بعده الوجودي على حساب «التمذهب» الطائفي، الذي دفع له إيران دفعاً ليبدو هذا الاتفاق في عين الخليج العربي هو تخلي الولايات المتحدة الأميركية عن العلاقات الاستراتيجية (السنية) الحميمة معها، لتضع يدها في يد عدوها (الصفوي) الذي اختلق المشاكل على أراضيها بطرق لا أخلاقية وخبيثة، منها تجييش الطائفة الشيعية العربية ضد أوطانها، كما فعلت في سورية والعراق ومحاولاتها البائسة في تجييشها في الخليج العربي، وعلى رغم وعود الرئيس أوباما وتصريحاته بأن أمن الخليج خط أحمر لأميركا، فلا يعدو الأمر سوى نكتة، لأن طبيعة الصراع على خريطة الشرق الأوسط لم تكتوِ به سوى دول العالم العربي، وهذا المبتغى والأمل الإيراني المنشود الذي ستدفع دول الخليج العربي الثمن باهظاً لمواجهته، بينما إيران الحليف الجديد لأميركا مستمرة في تحقيق مكاسبها ومستمرة أيضاً في إحراق المنطقة العربية برمتها. أزمتها الرابعة تلك المنبعثة من الحروب المشتعلة على مرمى قريب منها وهي متورطة بشكل أو بآخر فيها..
كما أنها مسحوبة من أنفها لخوض غمارها، وهذا ما لا يمكن أن يخضع للخيارات التي من بينها تجاهلها والابتعاد عنها، لنقل إنها بمثابة قدر لا مناص منه ليس لها بد من أن تحاول جاهدة ألا تقع في مطب الاستنزاف الذي سيعطل نموها ويكلفها خسائر فادحة بشرياً واقتصادياً وأمنياً، كي لا يصب في مصلحة الأعداء المتربصين الذين يدفعون بكل قواهم الفكرية والمادية والبشرية للضغط عليها واستفزازها.. لذلك فإن دول الخليج تعرض اليوم على اختبارات تاريخية صعبة لقياس مدى قدراتها للنفاذ من هذه الأزمات المتلاحقة بلا خسائر، خصوصاً بعدما انكشفت لعبة الوعود الأميركية وضآلة صدقيتها، إذ إن المسار السياسي الأمني العربي والخليجي على وجه الخصوص لم يجد لها مكاناً لائقاً بأهميتها في المفاوضات، لأن بنود اللعبة تقول: إن لا صوت يعلو فوق صوت المصالح، فلا أعداء ولا أصدقاء خارج إطارات هذه اللعبة، والمصالح الأميركية المستقبلية المنتظرة سيوفرها هذا الاتفاق.
تبدو دول الخليج العربي في المستقبل أمام مفترق طرق، عليها أن تختطف اللحظة وتقرر سريعاً في حل كل أزماتها العالقة، بالاعتماد على ذاتها وعلى شعوبها ومقدراتها المادية وثرواتها المتنوعة، وأن تؤسس لها قاعدة تصنيعية تدفع بها لاحتلال مكان لائق في نادي المصنعين المعتبرين، وقد لا يتم هذا بمعزل عن صناعة شخصية للإنسان الخليجي، من أجل بناء مجتمعات منتجة، تخفف عن كاهلها عبء الابتزاز الخارجي، وإزالة النظرة إلى الشعوب على أنها تابعة مستهلكة، وهذا يتطلب إعادة النظر في أنظمتها التشريعية الإدارية والتعليمية، لتتجلى المعاني الحقيقية الروحانية والمادية لعلاقة الإنسان بوطنه، بعيداً عن مثاليات الشعر والنثر التي تغص بها الصحف، وبعيداً عن التقسيمات الإثنية والطائفية، التي تجعلها قابلة للاختراق من جهة الأعداء المتربصين كإيران والجماعات الإسلامية المتطرفة.
وقد فطنت أخيراً دولة الإمارات إلى هذا الخلل وشرعت في مراجعة أنظمتها ومعالجة مكامن الخلل واضعة الإنسان في المقام الأول، بذلك ستتمكن دول الخليج من تمتين بنيانها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمني وفق مقتضيات العصر ومتطلباته، وتكسب احترام الآخرين لها.

المصدر: الحياة