التكيف مع آثار تحرير أسعار الطاقة

آراء

أكمل من حيث انتهى المقال الأخير “من المستفيد الأكبر من دعم أسعار الطاقة؟”، بالبحث في الآليات والأدوات التي تنتشل أغلب جوانب الاقتصاد الوطني من الركون المكلف إلى إعانات الحكومة، وفي الوقت ذاته المحافظة على أفراد المجتمع وأسرهم من المواطنين من أي انعكاسات سلبية لتحرير أسعار استهلاك الطاقة، وتقنين اتجاهاته ليذهب حصرا خلال المراحل الزمنية الانتقالية المقبلة إلى المواطنين المستحقين فقط، مع زيادة الاهتمام بشرائح ذوي الدخل المتوسط فما دون، والمتقاعدين وبقية أفراد المجتمع الذين لا تنطبق عليهم القدرة الكافية من حيث الدخل.

سيترتب على نزع إمدادات الدعم الحكومي المشتت أو المعمم لاستهلاك موارد الطاقة محليا من جسد الاقتصاد الكلي، كثير من التحولات العميقة الجذور، تلك الإمدادات التي تشبه إلى حد بعيد الأنابيب المغروزة في جسد أحدهم داخل غرفة العناية المركزة في أحد المستشفيات، وقد حان الوقت منذ زمن مضى أن تنزع تلك الأنابيب من جسد المريض ليكتمل شفاؤه، وليقوم الجسد ذاتيا باستكمال تعافيه وزيادة مناعته وقوته، تمهيدا لخروجه من التنويم في العناية المركزة مدى الحياة! وأثناء عمليات نزع الإمدادات بصورة تدريجية، لا بد من البدء في نزعها من الأعضاء الأكثر قدرة على التحمل، مقابل زيادة الاهتمام ببقية الأعضاء غير القادرة مرحليا، على أنه سيأتيها الدور مستقبلا مع زيادة تعافيها لتنزع منها أيضا إمدادات الإعانات الحكومية.

وتذكيرا بما سبقت الإشارة إليه بخصوص رؤية ماذا على الأجهزة الاقتصادية والمالية عمله تجاه هذا التوجه، وتحديدا فيما يتعلق بالمواطنين متوسطي الدخل فما دون، وبقية شرائح المجتمع المعدومة الدخل الثابت والكافي. تؤكد التطورات المحتملة مع بدء تحرير أسعار الطاقة، أنْ تتصاعد فواتير تكلفة المعيشة بصورة متسارعة، فعدا الارتفاع المتوقع على أسعار الاستهلاك المباشرة لمختلف الأفراد، التي يقترح لها إصدار بطاقات تموين وعديد من البرامج المخصصة لدعم شرائح المجتمع المستحقة للدعم الحكومي، إلا أن تأثيرات أخرى غير مباشرة ستكون أوسع نطاقا، وأثقل وقعا على الدخل الحقيقي للأفراد، ستأتي عبر ارتفاع أسعار أغلب السلع والخدمات الاستهلاكية والمعمرة، وهي التي تشكل الوزن النسبي الأكبر في سجل مصروفات الفرد وأسرته، فما كان يستقطع على سبيل المثال من دخله الشهري ما نسبته تراوح بين 50 إلى 80 في المائة، لا شك أنها مع افتراض “عدم زيادة دخله الشهري” سترتفع إلى نسب مروعة جدا، ستتجاوز دون أدنى شك دخله الشهري بالكامل، وقد تصل فاتورة تكلفته المعيشية إلى ضعف الدخل الشهري الثابت!

ولهذا فما قد تسهم به “بطاقة التموين” في التصدي للآثار المباشرة لارتفاع أسعار استهلاك موارد الطاقة، لن تستطيع فعل أي شيء يذكر تجاه الآثار الأخرى غير المباشرة الأوسع والأكثر تأثيرا في الدخل الثابت للفرد، ما يقتضي بالضرورة القصوى الإصلاح الشامل لهيكلة الأجور والرواتب، بما يعزز من مستوياتها بالصورة الكافية واللازمة مقابل الارتفاع المرتقب في تكاليف المعيشة، والتركيز في هذا الاتجاه على الشرائح الواسعة من المواطنين ذوي الدخل المتوسط فما دون، إضافة إلى بقية الشرائح الاجتماعية من المتقاعدين والأرامل والأسر المحدودة الدخل والعاطلين، وغيرها من الشرائح المعدومة ماديا.

إذاً نحن أمام خيارات قد تبدو في ظاهرها أكثر تكلفة، إلا أنه بالبحث في تفاصيلها ودراستها بشكل دقيق، سنجد أن الأمر مختلفٌ تماما؛ فإذا كانت تكلفة تلك الإعانات بوضعها الراهن المشتت والمعمم، الذي تجني مكاسبه الأكبر الأطراف غير المستحقة له من الأصل “قدرت فاتورته للسنة الأخيرة بأكثر من 400 مليار ريال”، فيما لا تتجاوز مكاسب الشرائح الاجتماعية الأكثر احتياجا من مجمل تلك الإعانات سقف الـ 10 في المائة في أفضل الحالات! ففي حال تركزت السياسات في المرحلة الراهنة على تركيز الدعم في تلك الشرائح الاجتماعية المستحقة، سواء عبر منح بطاقات التموين، أو زيادة مستويات دخلها الشهري “إعادة هيكلة الأجور والرواتب”، فإن نتائج إعادة رسم سياسات الدعم الحكومي هنا، لن تصبح مكلفة على الإطلاق حتى وإن بلغتْ فاتورة تحرير الأسعار نصف مبلغ الدعم الحكومي المذكور أعلاه! بل إنها في خلاصة الأمر تعني إعادة توزيع ذلك الدعم “أو الثروة”، وتقليصا مهما لتفاوت مستويات الدخل بين طبقات المجتمع.

كيف سيتم الأمر على أرض الواقع؟ لا شك أنه يختلف كثيرا عما تقدم لأسباب عديدة، لعل من أهمها:

(1) أن الدعم الحكومي هنا المتمثل في تحمل الدولة فرق السعر بين السعر المحلي والعالمي، تقلص كثيرا عن مستوياته في الأعوام الماضية بسبب التراجع الكبير الذي طرأ على السعر العالمي للنفط بنسبة فاقت 50 في المائة، وهذا يعني أن التدرج في تحرير أسعار الطاقة بنسب تقع بين 15 و30 في المائة حسب الجدول الزمني المصمم “نصف سنوي، سنوي”، ومزامنته بتخصيص الدعم للشرائح المستحقة “بطاقات التموين”، إضافة إلى تحسين مستويات الأجور بحد أدنى لا يقل عن “ضعف” نسب تحرير الأسعار لامتصاص الآثار الناتجة، كل هذا يمكن المضي فيه قدما دون إلحاق الضرر بمستويات المعيشة للمواطن، فيما يظل التحدي الأكبر ممثلا فيما ستواجه منشآت القطاع الخاص بشأن ارتفاع تكلفة التشغيل زائدا ارتفاع تكلفة الأجور والرواتب! وهنا ستكون مضطرة إلى تحسين كفاءة التشغيل والتوظيف، فتعتمد على رفع كفاءة استهلاكها للطاقة، وتخفض أيضا من توظيف العمالة الوافدة، للمحافظة على هامش أرباحها، علما أنها لن تتأخر عن رفع أسعار بيع منتجاتها وخدماتها. هذا كله سيصب في مصلحة الاقتصاد الوطني، عبر خفض معدلات استهلاك موارد الطاقة سواء من خلالها مباشرة، أو من خلال ترحيلها العمالة الوافدة التي كانت تستهلك هي أيضا جزءا من الموارد، وفي الوقت ذاته تتحسن مستويات دخل المواطنين، ما سيزيد من اجتذاب مزيد من العاطلين للعمل في وظائف كانوا يحجمون عنها بسبب انخفاض أجورها.

(2) أن ما سيتم توفيره محليا من موارد الطاقة، سيكون مرشحا للتصدير بالسعر العالمي كاملا، فما قامت الحكومة بدعمه جزئيا في السوق المحلية، وما قامت به من تحسين لمستويات الأجور، يمكن تغطية مصروفاته بالكامل وأكثر من خلال تحصيلها عوائد مبيعات الطاقة للسوق العالمية بالأسعار السوقية! وكأننا نتحدث عن تمويل قائم لأي نفقات إضافية تستهدف تحسين مستويات الأجور والرواتب.

(3) أن سياسات تحرير أسعار الطاقة محليا سيؤدي رغم الآلام المصاحبة له، وتحديدا لمنشآت القطاع الخاص “بصورة أكبر للمنشآت في قطاع البتروكيماويات”، إلى إرغامها على تحسين كفاءة الإنتاج والتشغيل، وسيزداد التحدي عليها مع ضرورة رفعها الحدود الدنيا لأجور العمالة الوطنية فيها، هذا كله سيشكل تحديات جسيمة عليها، إلا أنه سيوجد منها في نهاية الأمر “لمن استطاع البقاء” كيانات إنتاجية أكثر تنافسية في الأسواق العالمية.

ما التغيرات التي ستطرأ على الحياة العامة محليا، والجوانب الاقتصادية والمالية بالتحديد؟ هذا ما سيستكمل الحديث عنه في المقال المقبل بمشيئة الله. والله ولي التوفيق.

المصدر: الاقتصادية