هالة القحطاني
هالة القحطاني
كاتبة سعودية

الكاذبون حولنا

آراء

حين تصل إلى مرحلة معينة من حياتك، خاصة إذا كانت رحلتك شاقة ومضنية، لا تقتَصر رغبتك على العيش بسلام أو العمل على إرضاء نفسك فقط، بل يصبح لديك استعداد لتحمل مزيد من العناء للتخلص تماما من الأشياء التي تزعجك، والتي اعتدت ابتلاعها على مضض طوال الوقت حتى أصبحت تختزنها كل خلية في جسدك، وعند المساء تنبض وتنضح عليك بقيحها لتؤرق نومك.

وفي النهار تشغِل جسدك، ترهقه، وتضغط عليه لتشتت تفكيرك، كي لا تباغتك لحظة تنفرد فيها بنفسك وتضطر إلى أن تسمع نبرة ذلك “الصوت” النابع من أعماقك، صوت الضمير حيا يرزق بين جنباتك يحدثك بوضوح، يعنفك، ويلح عليك بحقائق واضحة لا تحتمل الشك، وكعادتك اخترت أن تتعامى عنها فقط لتتفادى إحراج من أمامك، فتتحمل عذابات نفسك لنفسك وتقضم لسانك لتخرسه.

أكثر ما يمكن أن يسبب لك القلق، حين تضطر إلى أن تتعامل مع “الكاذبين”، حيث تدهمك رائحة الكذب كالغاز المسيل للدموع، فيهيج مشاعرك، يؤلمك، يحبطك، يضعفك، ويحاصرك داخل نفسك إلى أن يجبرك على الاستسلام، لتبتلع انفعالاتك بصمت خوفا من أن تتعرض للإحراج من شدة وقاحتهم. هم عادة لا يخجلون ولا يتوقفون عند كذبة واحدة، بل يسترسلون و يصنعون منها حلقات ومسلسلات تمتد لسنوات وتحتل جزءا من حياتهم، فعلى سبيل المثال حين يستغل أحدهم وظيفته ويسيء استخدام صلاحياتها دون نزاهة بمحاباة قريب أو صديق، لا يكتفي بسرقة حق شخص آخر، بل يستبسل في محاربته وتكذيبه وتلبيسه الخطأ وأحيانا تهمة في سبيل تبرئة نفسه. وفي مثال بسيط آخر لا يتردد الكاذب في استغلال أبنائه لتمرير كذبه لأصدقائه أو أقاربه حين يتصلون أو يمرون بمنزله، وعندما يلتقي بهم صدفة يستقبلهم بكذبة مأساوية يسرد تفاصيلها بانفعال مبالغ فيه قبل أن يرد عليهم السلام، ولأنهم اعتادوا على كذبه يستمعون إليه إلى أن ينتهي دون نقاش لاعتقادهم أن “مفيش فايدة”.

وكبقية الناس، تجد أنك لا تستطيع أن تفصل نفسك عن دائرة الأشخاص المحيطين بك، والذين لم تتعمد اختيارهم، بل فرضتهم عليك ظروف الحياة، ولكن مع الوقت أصبحت تميز الكاذبين بينهم، فسرعان ما تشعر بوجودهم الذي لا يزيدك سوى بؤس وشقاء حين يتحدثون، استغلاليون يعتبرون من أكثر الناس الذين يستطيعون إلحاق الضرر بك، ما إن يتعرفوا على حقيقة شخصيتك لا يتوانوا من زرع كذبة وراء الأخرى أمامك ليجبروك على تصديقها، وإن رفضت يحاربوك، إلى أن ينتزعوا منك دليلا على تصديقهم، وفي النهاية لا يثقون بك لأنك شككت بهم من البداية، ومع ذلك لا تعرف أحيانا كيف تتملص من التعامل معهم أو الاحتكاك بهم خاصة إن كانوا في محيط الأقارب، ليس لأنك إنسان ضعيف، بل ربما لأنك تخضع لسيطرتهم أو عالق في مكان ما تحت تأثيرهم، واعتدت على مجاملتهم، مع أنك لست في حاجة إليهم ووجودهم في حياتك أشبه بوجود أشياء كثيرة تزدحم بها المساحة المحيطة بك دون فائدة، مثل لوحة قديمة اعتدت أن تراها على جدار غرفة المعيشة، مثل الضوء الخافت بجانب سريرك الذي لا يمنحك ضوءا كافيا للإنارة، ولكنك اعتدت على وجوده بجوارك. لو تمكنت من التخلص من هؤلاء، لن تشعر سوى بالامتنان للمساحة الإضافية والراحة النفسية التي ستمنح لك.

في محيط العمل عليك مواجهة الكاذبين بحذر شديد جدا، فهم يبدأون كلامهم معك بطيبة غير معهودة، محترفون وخطرون ويعد كذبهم من النوع الغادر، الذي لا يتردد صاحبه في اختلاق مصيبة مذهلة تدينك إذا شعر بأنك تشكك في مصداقيته، فإذا سألت رئيسك المباشر مثلا عن سبب تأخر ترقيتك سبع سنوات، لأقسم لك أيمانا مغلظة أنه كان يحارب من أجلك، وأنه بذل ما في وسعه لإقناع المدير، ثم يكبِّر ويصلي، ويعود إليك ليضع أمامك كل العراقيل الإدارية ويشهد الله على ما في قلبه، فتخجل من نفسك حين يذكر اسم الله، وتشعر بأنه عار عليك ألا تصدق فتصمت. وتتعامى حين يقدمها لقريب شخص نافذ، وتستسلم لقرار نقلك!

إذا تكالبت عليك ظروف الحياة، وشعرت بالوحدة في منتصف الطريق، لا تبتئس بل فكر جديا بإعادة فرز مزيد من الأشخاص حولك، واعمل على حذف كل من كان يستنفد طاقتك ووقتك ويعمل على تحطيمك داخليا حتى في اللحظات الصعبة التي كنت تضغط على نفسك لتجاريه في كذبه.

أنت اليوم لا تحتاج إلى هؤلاء في حياتك، بل آخر شيء تتمناه أن تملأ فراغ حياتك بأشخاص يثقلون روحك بخبثهم، ويسحبونك للوراء بسلبيتهم، فإذا اكتشفت أنك تلقي بالجميع خلف ظهرك وتعتقد أنك أصبحت وحيدا، تأكد أن هناك آخرين مثلك، وربما يكون هذا أفضل وقت تعيد فيه حساباتك تجاه الأشخاص المحيطين بك، ذلك الوقت ستكتشف متعة قضائك مزيدا من الوقت مع نفسك.

“الكاذبون حولنا” سئمنا من مجاراة كذبكم، صمتنا أمامه لم يكن سذاجة بل أدب منا لتفادي إحراجكم. سيأتي يوم تحرجون فيه وتخسرون، ويرحل عنكم كل من حولكم.

المصدر: الإقتصادية